بازگشت

المقدمة


- 1 -

نحن بين يدي امام من أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين ملأوا الدنيا بفضائلهم و علومهم، و وهبوا حياتهم لله، و أخلصوا للحق كأعظم ما يكون الاخلاص، انه الامام العاشر علي الهادي سمي جده الامام أمير المؤمنين رائد الحكمة و العدالة الاجتماعية في الأرض، و قد شابهه في نكران الذات، و التجرد من كل نزعة من النزعات المادية، فلم يؤثر عن هذا الامام عظيم أنه استجاب لأي داع من دواعي الهوي، أو خضع لأية رغبة من الرغبات النفسية التي لا تتصل بالحق، و انما آثر طاعة الله علي كل شي ء، فقد هام بحبه تعالي يحيي ليالية بالعبادة، و التضرع الي الله تعالي، و مناجاته.

لقد تفاعل الايمان بالله في أعماق نفسه، و دخائل ذاته حتي صار من أبرز عناصره، و من أظهر مقوماته، و قد أثرت عنه من الأدعية الشريفة و المناجاة الحكيمة، و شذرات رائعة في فلسفة التوحيد مما تدلل علي أنه كان من الرواد الأوائل الذين رفعوا مشعل الهداية، و الايمان في الأرض.

- 2 -

و منح الله أئمة أهل البيت عليهم السلام العلم و الحكمة، و آتاهم من العلم و الفضل ما لم يؤت أحدا من العالمين، فقد أثرت عنهم من العلوم



[ صفحه 8]



و المعارف ما يدعوا الي الاعتزاز و الفخر، و قد تميز الكبير و الصغير من أئمة الهدي بهذه الظاهرة فالامام الجواد عليه السلام قد تقلد الزعامة الدينية و المرجعية العامة للأمة في سن مبكر، فقد كان عمره الشريف سبع سنين و أشهرا، و قد سئل عن أعقد المسائل الفلسفية و الكلامية و الفقهية فأجاب عنها جواب العالم الخبير المتخصص، و من الطبيعي أنه لا تعليل لذلك الا بما تذهب اليه الشيعة الامامية من أن الأئمة عليهم السلام قد وهبهم الله تعالي طاقات هائلة من العلوم كما وهب أنبياءه و رسله من أولي العزم.

و كما كان الامام الجواد عليه السلام أعجوبة الدنيا بمواهبه و عبقرياته فكذلك كان ولده الامام الهادي عليه السلام، فقد كان في سن مبكر و فجع بوفاة أبيه الجواد، فرجعت اليه فقهاء الشيعة و علماؤها الذين كانوا يحتاطون كأشد ما يكون الاحتياط في أمر الامامة، فكانوا يبحثون بمنتهي الدقة و يفحصون بمنتهي الفحص عن أمر الامام، فاذا قامت عندهم الأدلة القطعية عن امامته دانوا بها، و لم يكونوا بذلك مندفعين وراء العواطف و الأهواء، و انما كانوا يرون أنهم مسألون أمام الله تعالي عن ذلك، لأن الامامة عندهم أصل من أصول الدين.

و علي أي حال فقد سأل علماء الامامية و فقهاؤهم الامام الهادي عليه السلام، و هو في مقتبل العمر عن مختلف العلوم و المعارف فأجابهم عنها جواب العالم الخبير فدانوا بامامته، و قد زادهم ذلك ايمانا و يقينا بصحة ما يذهبون اليه من أن الامام لا بد أن يكون أعلم أهل عصره من غير فرق بين الصغير و الكبير.

لقد ظهر للامام الهادي عليه السلام من الفضل و العلم و التبحر في علوم القرآن و السنة ما يبهر الأفكار، و قد عجت الأندية و المجالس في مختلف أنحاء العالم الاسلامي بالحديث عن مدي ثرواته العلمية التي لا تحد.



[ صفحه 9]



- 3 -

و دان شطر كبير من المسلمين بامامة الامام علي الهادي عليه السلام، و لزوم مودته و طاعته و كانوا يحملون اليه الأموال الطائلة من الحقوق الشرعية التي يجب دفعها الي الامام كحق الامام، و غيره، مضافا الي الهدايا و الألطاف التي كانوا يقدمونها له، و قد نقلت المباحث و رجال الأمن ذلك بصورة موسعة الي المتوكل العباسي الذي كان من ألد الأعداء للعلويين و شيعتهم، فانتفخت أوداجه، و تميز غيظا و غضبا، فأمر الطاغية بحمل الامام الي سر من رأي التي هي عاصمة ملكه، ففرض عليه الاقامة الجبرية فيها، ليرصد حركاته، و يتعرف علي العناصر الموالية له، و يمنع عنه الأموال الواردة اليه و صد عنه العلماء و الرواة الذين ينتهلون من نمير معارفه و علومه... لقد عاني الامام في عهد المتوكل صنوفا مرهقة من القسوة و العذاب، فكان بين فترة و أخري يعهد الي شرطته بتفتيش دار الامام و حمله بالكيفية التي يجدونها فيه، و قد مثل مرة بين يديه، و قد انتشرت في مجلسه كؤوس الخمر، و آلات العزف، و آلات الموسيقا، و جوقات المغنين، و المتوكل ثمل سكران، قد احتفت به فرق من المغنيات و العابثين فلم يحفل به الامام، و لم يتهيب سلطانه، و انما انبري يعظه، و يذكره الدار الآخرة، و ينعي عليه ما هو فيه من اتباع الهوي و الانقياد للشهوات و يعرض هذا الكتاب الي تفصيل ذلك:

- 4 -

و كان الامام الهادي عليه السلام المثل الوحيد للجبهة المعارضة للحكم العباسي، و أحد القادة الطليعيين لهذه الأمة في مسيرتها النضالية ضد الطغيان و الجبروت، فقد وقف موقفا سلبيا يتميز بالشدة و الصلابة أمام ملوك عصره، فلم يتصل بأي واحد منهم، و آثر الابتعاد عنهم الأمر الذي أوجب أن يحقدوا عليه، و يضمروا له العداوة و البغضاء، و يقابلوه بمزيد من الشدة و القسوة.



[ صفحه 10]



ان الامام عليه السلام لو ساير ملوك عصره، و سار في ركابهم لما فرضوا عليه الاقامة الجبرية في سر من رأي، و ما فرضوا عليه الحصار الاقتصادي، و تركوه في ضائقة مالية خانقة، و حجبوه عن شيعته... لقد آثر الامام عليه السلام رضاء الله علي كل شي ء، و آثر مصلحة الأمة فابتعد عن أولئك الملوك الذين فرضوا سلطانهم بقوة السلاح، و القهر، و يعرض هذا الكتاب الي اعطاء صورة عن سياستهم و سيرتهم مقتبسة من أوثق المصادر التي بأيدينا.

-5 -

و لم يمتحن الامام الهادي عليه السلام وحده في عهد ملوك العباسيين الذين عاصرهم، و انما امتحن بهم المسلمون جميعا، فقد عبثوا بمبادئهم، و لم يعد في ايام حكمهم أي ظل للاسلام بمعناه الصحيح، فقد سخروا اقتصاد الأمة

لاشباع شهواتهم، و انفاقها بسخاء علي المغنيين و العابثين، و كانت لياليهم الحمراء في بغداد و في سامراء حافلة بجميع ما حرمه الله، و قد ابتعدوا كل البعد عن المقاييس الاسلامية، الهادفة الي رفع مستوي الانسان، و ابعاده عن مسارح العبث و اللهو.

- 6 -

و أصحبت دراسة العصر من البحوث المنجية في دراسة الشخص لأنها تكشف عن الجوانب المهمة من حياته الفكرية و الاجتماعية، و السياسية، و علي ضوء ذلك فنحن مدعوون لدراسة عصر الامام و الالمام به من جميع جوانبه لأن له التأثير علي حياة الامام عليه السلام.

لقد حفل عصر الامام بأحداث رهيبة كان من أبرزها تسلط الأتراك علي جميع شؤون الدولة، و استبدادهم بالاقتصاد العام للدولة بحيث لم يعد أي نفوذ لملوك العباسيين، فقد شلت أيديهم و كانوا بمعزل عن جميع الشؤون الداخلية



[ صفحه 11]



و الخارجية، فمن رضي عنه الأتراك من ملوك العباسيين أبقوه، و من سخطوا عليه عزلوه أو قتلوه، و قد تعرضت البلاد من جراء ذلك الي أزمات خطيرة لأن الأتراك كانوا لايحسنون أمور الملك و لا يفقهون الشؤون السياسية، و انما كانوا بدوا ليسوا بأهل حضارة، و لا أهل ملك، و يلم هذا الكتاب بتفصيل ذلك، كما يعطي صورة عن سائر الأحداث التي جرت في ذلك العصر.

- 7 -

و يعرض هذا الكتاب الي تراجم أصحاب الامام الهادي عليه السلام، و تراجم جملة علومه، و رواة حديثه، و فيما أحسب اني تفردت في دراستي عن حياة الأئمة الطاهرين عليهم السلام بهذه الجهة، فان الدراسات الحديثة، لم تعن بذلك، و أهملته اهمالا مطلقا، و فيما أري أن عرض ذلك من متممات البحث عن الشخص، فانه يبرز حياته الثقافية و الفكرية، و مدي علاقته بالناس، و علاقتهم به، كما أنه في نفس الوقت يحتوي علي معلومات مهمة عن الشخص، لم تذكرها الكتب المترجمة له، و انما ذكرت في ضمن تراجم أصحابه.

- 8-

و ليس هذا الكتاب أول كتاب ألف عن حياة الامام علي الهادي عليه السلام، فقد سبق أن الف عنه بصورة موسعة العلامة المحقق الشيخ ذبيح الله، فقد خصص الجزء الثالث من موسوعته المسماة ب«مآثر الكبراء» التي بحث فيها عن مدينة (سامراء) بالامام الهادي عليه السلام، كما ألف الاستاذ السيد عبد الرزاق شاكر البدري الشافعي كتابا أسماه «سيرة الامام العاشر علي الهادي» و فيما أعتقد أن ما ألف عن هذا الامام العظيم، و منه هذا الكتاب لا يلم - بصورة جازمة - بجميع مآثره، و شؤونه، و انما يلقي أضواءا و مؤشرات



[ صفحه 12]



علي معالم شخصيته العظيمة التي هي امتداد ذاتي لحياة آبائه الذين حووا فضائل الدنيا، و مكارم أفذاذها.

- 9-

و أري من الحق علي، و أنا في نهاية هذا التقديم أن أعترف بالفضل، و أسجل مزيد التقدير و التكريم الي سماحة الحجة العلامة الكبير أخي الشيخ هادي شريف القرشي حفظه الله، فقد أعانني معونة صادقة في تأليف هذا الكتاب فقد راجع كثيرا من المصادر بما فيها بعض الموسوعات كوسائل الشيعة و غيرها، و قد قدم لي كثيرا من المعلومات عن حياة الامام الزكي أبي الحسن الهادي عليه السلام، سائلا من الله تعالي أن يثيبه علي ذلك، و يجزيه عني خير ما يجزي أخا عن أخيه،.

النجف الأشرف

المؤلف

باقر شريف القرشي



[ صفحه 15]