بازگشت

البؤس العام


و عانت الأغلبية الساحقة من الشعوب الاسلامية البؤس و الفقر و الحرمان في مختلف العصور العباسية، و قد كثرت شكوي العلماء و الأدباء و رجال الفكر من سوء حياتهم الاقتصادية، و لنستمع الي العطوي الشاعر الكبير، و هو يصور كآبته بهذه الأبيات الحزينة يقول:

هجم البرد مسرعا، و يدي صفر و جسمي عار بغير دثار فتسرت منه طيلة التشارين الي أن تهتكت استاري و نسجت الأطمار بالخيط و الابرة حتي عريت من اطماري و سعي القمل من دروز قميصي من صغار ما بينهم و كبار يتساعون في ثيابي الي رأسي قطارا تجول بعد قطار ثم وافي كانون و اسود وجهي و اتاني ما كان منه حذاري

و يستمر في وصف بؤسه و ما يعانيه من الفقر و الحرمان فيقول:



لو تأملت صورتي و رجوعي

حين امسي الي ربوع قفار



أنا وحدي فيه و هل فيه فضل

لجلوس الأنيس و الزوار



و الخلا لا يراد فيه فما لي

ابدا حاجة الي الحفار



بل يراد الخلا لمنحدر النحو

و ما ذقت لقمة في الدار



و اذا لم تدر علي المطعم الأفواه

سدت متاعت الأحجار [1] .



لقد بلغ الفقر بهذا الشاعر البائس الي مستوي سحيق فلم يملك من متع الدنيا ما يستر به بدنه، و يتقي به من شدة البرد فكان جسمه عاريا ليس عنده الا اطمار بالية، قد سري فيها القمل كأنها قطار تجول في جسمه، كما صور في الأبيات الأخيرة شدة بؤسه، فهو يأوي الي ربوع قفار ليس فيها احد



[ صفحه 326]



يتعاطي معه الحديث، و لشدة جوعه، و خلو جوفه، فلا يحتاج الي المرافق، و هذا افظع بؤس، و اوجع فقر يعانيه الانسان و من الشعراء الذين نظموا بؤس حياتهم هو ابو العيناء و لنستمع الي شكواه يقول:



الحمدلله ليس لي فرس

و لا علي باب منزلي حرس



و لا غلام اذا هتفت به

بادر نحوي كأنه قبس



ابني غلامي و زوجتي امتي

ملكتها الملاك و العرس



غنيت باليأس و اعتصمت به

عن كل فرد بوجهه عبس



فما يراني ببابه أبدا

طلق المحيا سمح و لا شرس [2] .



ان أباالعيناء لم يملك اية متعة من متع الحياة فليس عنده فرس ض، و لا خادم، و لا أمة، و قد اتخذ ابنه غلاما له، و زوجته أمة، و قد استغني بشدة بأسه، و شرف نفسه عن الغني و المال.

و من ادباء العصر العباسي البائسين الذين لم يركعوا للسلطة هو الحمداوي و لنستمع اليه يحدثنا عن فقره يقول:



تسامي الرجال علي خيلهم

و رجلي من بينهم حافية



فان كنت حاملنا ربنا

و الا فارجل بني الزانية [3] .



و ممن صعد آهاته علي تعاسته من ادباء ذلك العصر سعيد بن وهب يقول:



من كان في الدنيا له شارة

فنحن من نظارة الدنيا



نرفعها عن كثب حسرة

كأننا لفظ بلا معني



يعلو بها الناس و أيامنا

تذهب في الارذل و الأدني [4] .





[ صفحه 327]



لقد عادت حياة هذا الاديب لفظا بلا معني، و ذهبت أيام حياته في الأرذل و الأدني، و لم تعد له أية بهجة او لذة في الحياة.

و ذهب ادباء ذلك العصر الي أن حرفة الأدب و العلم من لوازمها الفقر و الحرمان.

يقول العطوي:



يا أيها الجامع علما جما

امض الي الحرفة قدما قدما



حرمت وفرا، و رزقت فهما

فو الذي اجزل منه القسما



لأجهدن ان يكون خصما [5] .



و معني هذا الشعر ان طلب العلم - في ذلك العصر- اصبح من الحرف الكاسدة و ان طالبه لا بد ان يحرم الغني و الوفر، و قد عاني العلماء الوانا مريرة من الفقر و الحرمان، و قد نظم الجاحظ ابياتا صور فيها ما مني به من البؤس،

و الفقر يقول:



أقام بدار الخفض راض بحظه

و ذو الحرص يسري حيث لا احد يدري



يظن الرضا بالقسم شيئا مهونا

و دون الرضا كأس امر من الصبر



جزعت فلم اعتب كنت ذاحجا

لقنعت نفسي بالقليل من الوفر



اظن غبي القوم ارغد عيشة

واجدل في حال اليسارة و العسر



تمر به الأحداث ترعد مرة

و تبرق أخري بالخطوب و ما يدري



سواء علي الأيام صاحب حنكة

و آخر كاب لا يريش و لا يدري [6] .



فلو شاء ربي لم اكن ذا حفيظة

طلوبا غايات المكارم و الفخر



خضعت لبعض القوم ارجو نواله

و قد كنت لا أعطي المنية بالقسر





[ صفحه 328]





فلما رأيت يبذل بشره

و يجعل حسن البشر واقية التبر [7] .



ربعت علي ظلعي و راجعت منزلي

فصرت حليفا للدارسة و الفكر



و صور الجاحظ الذي هو من مفاخر عصره ما مني به من الكابة و الحزن فقد اقام قابعا بدار الهوان و الذل في حين ان الجهال و الأغنياء قد توفرت لهم جميع اسباب الرفاهية و الوان النعم، و قد اطال عتابه علي الايام التي اوجبت خضوعه لبعض الناس راجيا نوالهم و معروفهم، ولكنه لما تبين له انه يبذل بذلك كرامته انصرف عنهم، و اتجه صوب العلم... و اذا كان الجاحظ و هو من كبار علماء عصره بمثل هذه الحالة من البؤس و الفقر فكيف بغيره من سائر الأدباء و المثقفين فضلا عن عامة الفقراء الذين لا سند لهم.

و من ادباء ذلك العصر يعقوب بن يزيد التمار فقد كان يسكن دارا تملكها السلطة، و يدفع سبعين درهما عن اجرتها في الشهرين، و كان لا يتمكن من دفع الأجرة، و قد صور حالته البائسة بهذه الأبيات:



يا رب لا فرج مما اكابده

بسر من رأي علي عسري و اقتاري



لا راحة قبل وقت الموت تدركني

فيستريح فؤاد غير صبار



قد شيبت مفرقي سبعون تلزمني

في منزل وضح من نقد قسطار [8] .



جباتها قبل فتح النجم وافية

و لو تعينت دينارا بدينار [9] .



يطول همي و احزاني اذا فتحوا

نجما، و ابكي بدمع مسبل جار



اموت في كل يوم موتة فاذا

لاح الهلال فمنشور بمنشار



تغدو علي وجوه من مغاربة

كأنما طليت بالزفت و القار



اذا تغيبت عنهم ساعة كسروا

بابي بارزبة او فأس نجار [10] .





[ صفحه 329]





و ان ظهرت فقلع الباب أيسره

و الحبس ان لم تخشني رقة الجار



فان اعان بقرض كف أيديهم

او لا، فاني غدا من كسوتي عار



سل المنادي الذي نادي علي سلبي

كم جهد ما بلغت في السوق أطماري



ان قيل عند وفاتي أوص قلت لهم

شهدت أن الهي الخالق الباري



و ان احمد عبدالله ارسله

و ان سبعين حقا اجرة الدار [11] .



و حكي هذا الشعر مدي بؤس هذا الشاعر و شقائه، فقد عاني أشد ما تكون المعاناة و اشقها من أجرة داره التي تملكها الدولة، فهو لا يستطيع دفع الاجور في الوقت المقرر، و قد طافت به الآلام، ففي كل يوم يموت موتة من جراء عجزه من تسديد اجور الدار، و اذا حل الوقت المعين و لم يؤد ما عليه اسرعت اليه الجباة السود الذين طليت وجوههم بالزفت فكسروا باب داره، و حبسوه، و اخذوا متاعه و باعوه ليستوفوا ما عليه من دين، و من شدة تألمه انه ذكر انه اذا حلت به المنية و اراد الوصية فهو يشهد الشهادتين، و يشهد انه مدين للدولة سبعين درهما هي اجرة داره.

ارأيتم ما كان يعانيه رجال العلم و الأدب في العصر العباسي من الضيق و البؤس في حين أن ذهب الأرض كان بأيدي ملوك العباسيين ينفقونه علي شهواتهم، و يهبونه بسخاء للماجنين و العابثين.

و من الجدير بالذكر ان الكثيرين من شعراء ذلك العصر المحرومين قد دعوا الي الزهد و التصوف، و ذلك من جراء ما عانوه من الضيق و الحرمان يقول العطوي:



يأمل المرء أبعد الآمال

و هو رهن بأقرب الآجال



لو رأي المرء رأي عينيه يوما

كيف صول الآجال بالآمال



لتناهي و اقصر الخطو في اللهو

و لم يغتر بدار الزوال





[ صفحه 330]





نحن نلهو و نحن يحصي علينا

حركات الادبار و الاقبال



فاذا ساعة المنية حمت

لم يكن غير عاثر بمقال



أي شي ء تركت يا عازما بالله

للممترين و الجهال؟



تركب الأمر ليس فيه سوي أنك

تهواه فعل أهل الضلال



أنت ضيف و كل ضيف و ان طالت

لياليه مؤذن بارتحال



أيها الجامع الذي ليس يدري

كيف حوز الأهلين للأموال



يستوي في الممات و البعث و الموقف

أهل الاكثار و الاقلال



ثم لا يقسمون للنار و الجنة

الا بسالف الأعمال [12] .



و بهذا انتهي بنا الحديث عن الحياة الاقتصادية البائسة التي كانت في حياة الامام أبي الحسن الهادي عليه السلام.


پاورقي

[1] شعر العطوي (ص 81).

[2] معجم الأدباء 7 / 71.

[3] ديوان الحمداوي (ص 88).

[4] الأغاني 20 / 337.

[5] شعر العطوي (ص 87).

[6] الكاب: الغنم.

[7] التبر بكسر التاء و هو ما كان من الذهب غير مضروب فاذا ضرب دنانير فهو عين.

[8] الفسطار: منتقد الدراهم.

[9] النجم: هو الوقت المعين لأداء الدين.

[10] الارزبة: المطرقة الكبيرة التي تكسر بها الحجارة.

[11] سامراء في أدب القرن الثالث الهجري (ص 172).

[12] تاريخ بغداد 3 / 138.