بازگشت

آيات في قصر الامارة و المؤامرات أيام المتوكل


... و دخل الامام عليه السلام الي القصر.

ليكون صرخة صاعقة في وجه صاحب القصر، و مستشاريه، و وزرائه، و كلمة ماحقة لقضاته و ضفادعه النقاقة، و كبرائه.

و معجزة ساحقة لكيدهم و مكرهم... بما ظهر من أمر انتدابه لحمل كلمة الله... و من آياته و معجزاته التي كانت بأمر الله تعالي و باذنه!.

و بشيرا، و نذيرا... يمنع الزيادة في الدين... و لا يرضي بالنقصان فيه...

«روي في اثبات الوصية أنه عليه السلام، دخل الي دار المتوكل مرة فقام يصلي. فأتاه بعض المخالفين فوقف حياله فقال له: الي كم هذا الرياء؟!.

فأسرع الصلاة و سلم، ثم التفت اليه فقال: ان كنت كاذبا سحتك الله!.

فوقع الرجل ميتا، فصار حديث الدار!» [1] .



[ صفحه 105]



... و لم يرتح لهذه الظاهرة القاهرة صاحب الدار، و لا من فيه من جزدان تقضم لذائذ الأطعمة فتنتفش كروشها، و تخضم أموال المسلمين التي سكتوي بها جباهها!.

فأن يستفتحوا مع الامام عليه السلام بمثل هذه البادرة المذهلة... فقد (و استفتحوا و خاب كل جبار عنيد (15)) [2] .

و أن ينالوا من «ضيف» القصر الذي قالوا انهم «مشتاقون» اليه و يؤذوه بعيد وصوله، فليس ذلك من الميسور لهم مهما بلغ بهم الكيد لبني علي و الزهراء عليهماالسلام.

و أن يصبروا علي ظهور كراماته و دلالاته، فذلك هو العلقم في لهواتهم... بل هو (كالمهل يغلي في البطون (45) كغلي الحميم (46) [3] يقطع أمعاءهم!.

فليبتلعوا الصبر... أو ليشربوا البحر... فليس في اليد - الآن - حيلة.

و ها هوذا عليه السلام - أيضا - يأتيه رجل من أهل بيته اسمعه معروف و يقول له: «جئتك و ما أذنت لي.

قال عليه السلام: ما علمت بك، و أخبرت بعد انصرافك، و ذكرتني بما ينبغي.

فحلف: ما فعلت... و علم أبوالحسن عليه السلام أنه كاذب فقال: اللهم انه حلف كاذبا، فانتقم منه!. فمات من الغد» [4] .



[ صفحه 106]



و انتشر الخبر الثاني و ذاع، و انتقل من أسماع الي ألسنة فأسماع، فسار بين المؤالفين و المخالفين... فكانت البادرة الثانية ثانية الأثافي!.

فما العمل و قد أخذت ترجح بالامام - و تشيل بعدوه - كفة الميزان، في كل مكان!.

أما ثالثة الأثافي فلا تستعجل عليها لأنها استمرت ألفا و ثلاثمئة و خمسين ليلة و ليلة، اذ دامت ثلاثة أعوام و تسعة شهور بين المتوكل و «ضيفه» الذي استقدمه «مشتاقا» الي... الايقاع به و قتله مهما كلف الأمر!. فكاد له و دبر و كاد هو و أعوانه... ولكنه سبحانه قال: (انهم يكيدون كيدا (15) و أكيد كيدا (16) [5] و قد قتل الخليفة «المشتاق» قبل أن يظفر بأمنيته (و ظهر أمر الله و هم كارهون (48)!. [6] .

و قبل أن ننتقل الي استعراض آيات الله عزوجل التي ظهرت علي يد سيدنا أبي الحسن الهادي عليه السلام طيلة عشرين عاما قضاها بين أشرس أعدائه و أشدهم حقدا عليه، نبقي المتوكل قليلا في صفوف المشاهدين - المتفرجين، لنعرض «مناظر» الشريط أولا، ثم نورد الأحداث العديدة التي جرت له معه؛ فان المتوكل كان أشد بني العباس عداوة للعلويين، و هو الذي جعجع بالامام عليه السلام و ألزمه بهجر وطنه و منازل الوحي المقدسة التي ولد و ترعرع و شب فيها، و أشخصه من الحجاز الي العراق ليقف في وجه كلمة الحق التي يحملها... و ليقتله متي استطاع!.

فمن مناظر تلك التمثيلية أنه «نقل بعض الحفاظ أن امرأة زعمت أنها



[ صفحه 107]



شريفة بحضرة المتوكل؛ فسأل عمن يخبره بذلك، فدل علي علي الرضا عليه السلام - و هذا خطا سنوضحه لأنه دل علي ابن الرضا -.

فجاء فأجلسه معه علي السرير، و سأله، فقال: ان الله حرم لحم أولاد الحسنين علي السباع. فلتلق للسباع.

فعرض عليها ذلك، فاعترفت بكذبها.

ثم قيل للمتوكل: ألا تجرب ذلك فيه؟.

فأمر بثلاثة من السباع، فجي ء بها في صحن قصره، ثم دعاه.

فلما دخل باب القفص أغلق عليه و السباع قد أصمت الأسماع من زئيرها!.

فلما مشي في الصحن يريد الدرجة، مشت اليه و قد سكنت و تمسحت به ودارت حوله و هو يمسحها بكمه، ثم ربضت!.

فصعد المتوكل و تحدث معه ساعة - من وراء قضبان القفص الحديدي -. ففعلت معه - أي مع الامام عليه السلام - كفعلها الأول حتي خرج. فأتبعه المتوكل بجائزة عظيمة!.

فقيل للمتوكل: افعل كما فعل ابن عمك.

فلم يجسر عليه و قال: أتريدون قتلي؟!.

ثم أمرهم أن لا يفشوا ذلك» [7] .

«و ذكر أن ابن الجهم قال: فقمت و قلت للمتوكل: يا أميرالمؤمنين، أنت امام، فافعل كما فعل ابن عمك.



[ صفحه 108]



فقال: و الله لئن بلغني أحد من الناس ذلك، لأضربن عنقك و عنق هذه العصابة كلهم!.

فو الله ما تحدثنا بذلك حتي مات [8] .

لقد خاب ظن المتوكل حين حسب أن السباع تفترس الامام و تريحه منه... و لذلك أسرع باحضار السباع الجائعة علي جناح السرعة زعما بأن فرصة الخلاص منه قد سنحت... فتحطم أمله و كذبه حلمه الذهبي بقتل الامام بفتوي الامام نفسه و بحضور شهود الزور في تلك القصور!.

«و نقل المسعودي أن صاحب هذه الحادثة هو ابن ابن علي الرضا، و هو علي العسكري، و صوب - ذلك، و هو علي حق - لأن الرضا - عليه السلام - توفي في خلافة المأمون اتفاقا و لم يدرك المتوكل» [9] فالحادثة وقعت مع المتوكل بلاشك، و لذلك علق ابن حجر الهيثمي عليها في صواعقه المحرقة - في ترجمة امامنا عليه السلام - بقوله:

«و مر أن الصواب في قضية السباع الواقعة من المتوكل، أنه - أي الهادي عليه السلام - هو الممتحن بها، و أنها - أي السباع - لم تقربه، وهابته، و اطمأنت لما رأته» [10] .

فمما لا شك فيه أن القصة حصلت مع امامنا هذا لا مع جده عليهماالسلام. و قد روي أبوالهلقام، و عبدالله بن جعفر الحميري، و الصقر الجبلي، و أبو شعيب الحناط، و علي بن مهزيار، قائلين: «كانت زينب الكذابة تزعم أنها بنت علي بن أبي طالب، فأحضرها المتوكل و قال: أذكري نسبك.



[ صفحه 109]



فقالت: أنا زينب بنت علي... و أنها كانت حملت الي الشام فوقعت الي بادية من بني كلب فأقامت بين ظهرانيهم.

فقال لها المتوكل: ان زينب بنت علي قديمة، و أنت شابة!.

فقالت: لحقتني دعوة رسول الله بأن يرد الي شبابي في كل خمسين سنة.

فدعا المتوكل وجوه آل أبي طالب، فقال: كيف نعرف كذبها؟.

فقال الفتح - بن خاقان -: لا يخبرك بهذا الا ابن الرضا.

فأمر باحضاره، و سأله، فقال عليه السلام: ان في ولد علي علامة.

قال: و ما هي؟.

قال: لا تعرض لهم السباع. فألقها الي السباع فان لم تعرض لها فهي صادقة.

فقالت: يا أميرالمؤمنين: الله الله في، فانما أراد قتلي!. و ركبت الحمار و جعلت تنادي: ألا انني زينب الكذابة!.

و في رواية أنه عرض عليها ذلك فامتنعت. فطرحت للسباع فأكلتها» [11] .

و قيل: «ان أم المتوكل استوهبتها منه فوهبها لها» [12] .

أما ذكر حدوث القصة مع الامام الرضا - الجد - عليه السلام في أيام



[ صفحه 110]



المأمون، فقد روي أنه «دخل الامام الرضا عليه السلام علي المأمون و عنده زينب الكذابة التي كانت تزعم أنها ابنة علي بن أبي طالب، و أن عليا دعا لها بالبقاء الي يوم القيامة. فقال المأمون للامام عليه السلام: سلم علي أختك.

فقال: و الله ما هي أختي، و لا ولدها علي بن أبي طالب.

فقالت زينب: و الله ما هو أخي، و لا ولده علي بن أبي طالب.

فقال المأمون للرضا عليه السلام: ما مصداق قولك؟.

قال: أنا، أهل البيت، لحومنا محرمة علي السباع. فاطرحها الي السباع، فان تك صادقة فان السباع تغب لحمها - أي تقربه مرة، و تتركه أخري، و تأنف أن تذوقه.

قالت زينب: ابدأ بالشيخ.

فقال المأمون: لقد أنصفت.

قال الرضا عليه السلام: أجل.

ففتحت بركة السباع، و أضريت - أهيجت - فنزل الرضا اليها!. فلما أن رأته بصبصت - أي طأطأت رؤوسها، و حركت أذنابها- و أومأت له بالسجود، فصلي ما بينها ركعتين، و خرج منها.

فأمر المأمون زينب لتنزل؛ و امتنعت... فطرحت الي السباع فأكلتها» [13] .

... و في كل حال طاش سهم المتوكل حين عاش لحظات سعيدة



[ صفحه 111]



خاطفة كان أثناءها يحلم برؤية السباع تمزق جسد الامام الذي أذهب الله تعالي عنه الرجس و طهره تطهيرا (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا... و كان الله قويا عزيرا (25)) [14] .

و خسي ء كل من أراد مبارزة الله تعالي في قدرته، و تحديه في مشيئته، و الاعتراض عليه سبحانه في انتخاب أهل البيت النبوي الشريف و جعلهم أمناءه و خلفاءه...

ولكن... كيف غابت عن ذهب المتوكل فعلة هارون الرشيد - بالأمس - مع أحد أبناء علي عليه السلام، و فشله في محاولته الخسيسة معه، يوم كان المتوكل شريكه فيها؟!. فقد قال ابن حجر في الصواعق المحرقة. تعليقا علي دخول الامام عليه السلام الي قفص السباع و لواذها به، و تمسحها بأعطافه الشريفة:

«و يوافقه ما حكاه المسعودي و غيره: أن يحيي بن عبدالله المحض بن الحسن المثني بن الحسن السبط - عليه السلام - لما هرب الي الديلم ثم أتي به الرشيد و أمر بقتله، ألقي في بركة فيها سباع قد جوعت، فأمسكت عن أكله، و لاذت بجانبه، و هابت الدنو منه!. فبني عليه ركن بالجص و هو حي بأمر المتوكل [15] الذي كان اذ ذاك في مقتبل عمره و لم يتربع بعد علي ذلك العرش الظالم الذي لم تنزل أحكامه في قرآن و لا في سنة... فلم يتعظ بتلك الآية التي يتعظ بها من كان علي غير الاسلام، بل جرب مثلها مع امام الحق و سيد الخلق في زمانه بجرأة الفراعنة المترببين!.

آية ذلك أن المتوكل نبت لحمه و نما عظمه علي كره العلويين الذي كان



[ صفحه 112]



لا يستطيع تبريره حتي فيما بينه و بين نفسه؛ و لذلك دأب علي الحط من شأن الامام الهادي عليه السلام أبان عهده الطويل، فما ازداد الامام الا رفعة و عزة... (و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين)... [16] و أبوالحسن الهادي يؤمئذ هو رأس المؤمنين... و ولي الله عليهم... و امامهم...

قال علي بن ابراهيم بن هاشم في تفسيره:

«حدثني أبي، قال: أمر المعتصم أن يحفر بالبطانية بئر، فحفر ثلاثمئة قامة فلم يظهر الماء، فتركه و لم يحفره.

فلما ولي المتوكل أمر أن يحفر ذلك البئر أبدا حتي يظهر الماء. فحفروا حتي وضعوا في كل مئة قامة بكرة،ن حتي انتهوا الي صخرة فضربوها بالمعول فانكسرت، فخرج منها ريح باردة فمات من كان بقربها!. فأخبروا المتوكل بذلك فلم يعلم ما ذاك. فقالوا: سل ابن الرضا عن ذلك، و هو أبوالحسن علي بن محمد العسكري عليهماالسلام.

فكتب اليه يسأله عن ذلك، فقال أبو الحسن عليه السلام: تلك بلاد الأحقاف، و هم قوم عاد الذين أهلكهم الله بالريح الصرصر» [17] .

فالامام عليه السلام هو مرجعهم دائما و أبدا... و في كل معضلة.

... و نفتح الستار - بعد انتهاء «المناظر» التي ظهر فيها جانب مما كان عليه صاحب القصر في سامراء حين كان في مجلس الحكم، و علي عرش السلطة - ليظهر من كان يلقب - «بأميرالمؤمنين»، و خليفة رسول رب العالمين، في مجلسه الخاص في منزله و قد تحرر من عب ء السلطة، و خلع



[ صفحه 113]



ربقة الاسلام من عنقه لأنه لا يعرف في الدين قبيله من دبيره... مبتدئين بما رواه الفحام، عن المنصوري، عن عم أبيه الذي قال:

«دخلت يوما علي المتوكل و هو يشرب، فدعاني الي الشرب، فقلت: يا سيدي، ما شربته قط!.

قال: أنت تشرب مع علي بن محمد!. - يعني بذلك الامام عليه السلام!-.

فقلت له: ليس تعرف من في يديك... أنه يضرك، و لا يضره!. - أي أن خليفة المسلمين الذي قعد مقعد النبي صلي الله عليه و آله و سلم، و الذي يعيش بين الكأس و الطاس، يجهل شأن الامام؛ و فريته عليه تضره و لا تضر الامام -.

- ثم قال-: و لم أعد ذلك عليه» [18] - أي أنه لم يعد حديث المتوكل علي سمع الامام عليه السلام -.

قال: فلما كان يوم من الأيام، قال لي الفتح بن خاقان: قد ذكر عند الرجل - يعني المتوكل - خبر مال يجي ء من قم، و قد أمرني أن أرصده لأخبره به. فقل لي من أي طريق يجي ء حتي أجتنبه.

فجئت الي الامام علي بن محمد، فصادفت عنده من أحتشمه، فتبسم و قال لي: لا يكون ألا خيرا يا أبا موسي. لم لم تعد الرسالة الأولة؟!. - يعني: لم لم تذكر لي فرية المتوكل علي و اتهامه لي بالشرب؟!-.

فقلت: أجللتك يا سيدي.

فقال: المال يجي ء الليلة، و ليس يصلون اليه، فبت عندي.

فلما كان من الليل قام الي ورده. و قطع الركوع بالسلام و قال لي: قد جاء الرجل و معه المال، و قد منعه الخادم الوصول الي، خاخرج خذ ما معه.



[ صفحه 114]



فاذا معه زنفيلجة فيها المال، فأخذته و دخلت اليه، فقال: قل له: هات الجبة التي قالت لك القيمة انها ذخيرة جدتها.

فخرجت اليه فأعطانيها... فدخلت بها اليه فقال لي: الجبة التي أبدلتها منها، ردها الينا. فخرجت اليه فقلت له فقلت له ذلك. فقال: نعم، كانت ابنتي استحسنتها فأبدلتها بهذه الجبة، و أنا أمضي فأجي ء بها.

فقال: أخرج فقل له: ان الله تعالي يحفظ ما لنا علينا. هاتها من كتفك!.

فخرجت الي الرجل فأخرجتها من كتفه، فغشي عليه!.

فخرج الامام عليه السلام - اليه فقال له: قد كنت شاكا فتيقنت؟!» [19] .

و تستوقفنا هذه الرواية بالأسئلة الكثيرة التي تزدحم حولها، و بالتعجبات التي تثيرها، و دلائل الامامة التي تحتويها دون أن تصرف نظرنا عن سكر الخليفة و خمره..

فمن العادة و المألوف أن خليفة المسلمين يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر... و يقيم الحد علي شارب الخمر فيما يقيم من حدود ما أنزل الله تعالي... أما هذا الخليفة فانه مع الزي الجديد فهو سكير خمير، يشربها، و يأمر بها، و يدعو اليها... ثم يجترح فرية علي الامام يهتز لها عرش الرحمان!. و يكذب علي الرجل، و يكذب علي نفسه بتلك التهمة الشنيعة حين يقول: أن تشرب مع علي بن محمد!.

فدعنا من سكر هذا الخليفة و عهره، و من خموره و فجوره لئلا ننصرف عن جوهر ما مر من الآيات في هذه الرواية.



[ صفحه 115]



لم كتم الرجل فرية المتوكل علي الامام... فمن بلغه اياها حتي قال للرجل: لم لم تعد علي الرسالة الأولة؟!.

ثم كان أن جاء الرجل ليخبر الامام أن الخليفة عرب بالمال القادم اليه من قم، و أنه كلف من يرصده ليصادره و يقبض علي ناقله... و دخل علي الامام و لم يفاتحه بذلك احتشاما ممن وجده بحضرته... فمن عرف الامام أن الرجل قادم بهذا الشأن، حتي تبسم و قال له: لا يكون الا خيرا، فاطمئن علي المال؟!.

و من أخبره عليه السلام أن المال يصلي الليلة، و أن «عيون» القصر تعمي عنه؟!.

و لماذا ألزم الرجل بالمبيت عنده؟. و كيف شعر بوصول المال أثناء صلاته في الليل و قبل أن ينصرف منها؟.

و كيف علم أن الخادم منع ناقل المال من الدخول عليه؟!.

ثم من أخبره بجبة القيمة؟. و أنها من ذخيرة جدتها؟!. و كيف عرف استبدالها بغيرها؟!. و من دله علي مخبئها من كتف الرجل، و أن الرجل كان غير صادق حين قال: أنا أمضي و أجي ء بها؟!

و لماذا - أخيرا - أغشي علي الناقل حين استخراجها من كتفه؟!.

و ما سبب خروج الامام عليه السلام اليه؟!. و، و، و... الخ، فاننا قد نفدت عندنا أدوات الاستفهام و بقيت التساؤلات، و تعبت منا: لماذا، و كيف، و من، و ماذا و غيرها!.

و رحم الله أبا نواس الذي قال بمدح الامام الرضا عليه السلام حين عوتب بعدم مدحه:



قيل لي: أنت أشعر الناس طرا

في فنون من الكلام النبيه





[ صفحه 116]





لك من جيد القريض نظام

يثمر الدر في يدي مجتنيه



فعلام تركت مدح ابن موسي

و الخصال التي تجمعن فيه؟.



قلت: لا أستطيع مدح امام

كان جبريل خادما لأبيه



فلا عجب أن يأتي الامام علم ذلك كله بواسطة محدثيه و مسدديه من الملائكة المسخرين لخدمته كسفير لله عزوجل، و لا غرابة أن يأتي الامام بهذه الآيات و لا بغيرها طالما هو مرفود بعناية الخالق العزيز الجبار الذي لا يعجزه شي ء و لا تخفي عليه خافية في الأرض و لا في السماء، فان أئمة أهل البيت عليهم السلام قد أتعبوا سلاطين عصورهم أكثر مما نتعب نحن أدوات الاستفهام حول أقوالهم و أفعالهم و آياتهم و بيناتهم...

و أولئك السلاطين لم يكونوا عديمي الفهم، و لا قليلي الادراك، بل كان أكثرهم علي جانب كبير من الوعي، و قسط عظيم من العلم، ولكنهم كانوا فراعنة ملك استحوذ عليهم حب الملك و التسلط، فقعدوا مقعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و حكموا بغير ما أنزل الله تعالي عليه، و أخافوا ذريته و أرعبوهم لئلا يحولوا بينهم و بين دنياهم، ثم قتلوهم و لو يرعوا للنبي فيهم الا و لا ذمة متناسين قول الله عزوعلا: (قل - يا محمد - لآ أسئلكم عليه أجرا الا المودة في القربي) [20] متصامين عن قوله سبحانه، و ذاهبين في الغي كل مذهب...

ان حادثة واحدة كهذه التي مررت بها، تجد فيها أكثر من عشر آيات بينات أتي بها امامنا العظيم، ثم لم يدعها طي الكتمان، بل صرح بها أمام رجل يتردد بينه و بين القصر، و أمام رجل آخر جاء من ايران شاكا متحيرا، لم يخبي ء الجبة ليسرقها، و لا استحسنتها بنته فاستبدلتها، بل أراد أن يبحث عن



[ صفحه 117]



الحق فيتبعه، لأنه لا ينتمي الي «تنابل» القصر الذين يرون الآيات و يتغاضون في سبيل فتات الموائد و لحس الصحون و مل ء الكروش و الجيوب!. مما صرفهم عن الايمان، و أنساهم ذكر ربهم!.

فقل لصاحب القصر و أعوانه و مشيريه و مخبريه: قد (فتنتم أنفسكم و تربصتم و أرتبتم و غرتكم الأماني...) [21] أفأمنتم مكر الله حين استسلمتم للشهوات، و كدتم لعترة نبيكم و مكرتم بهم. أم كنتم علي غير ملة الاسلام؟!! ان نطقكم بالشهادتين لا يغر الا الجهلة... فقد آمنتم ببعض الدين و كفرتم ببعض، و عبدتم الله علي حرف!. و من فعل ذلك فلا ايمان له و لا أمان علي أبناء رسول الاسلام منه، و لو كانوا من أكرم خلق الله عليه، و من آذاهم فقد آذاه و من آذاه فقد آذي الله!.

أجل، قد منع هؤلاء أئمة المسلمين من ايصال كلمة الحق الي المسلمين... و بزعمي أن تبرير أذيتهم من قبل الأمويين الموتورين، أسهل من تبرير أذية العباسيين لهم و أيسر، لما كمان بين أولئك و أولئك من ترات و ذحول، و لما كان بين هؤلاء و هؤلاء من قربي و افضال.

فكأين من هنات و هنات كانت للمتوكل مع امامنا الشاب عليه السلام!. و كم له معه من تصرفات يندي منها جبين الانسانية خجلا، لما كان عنده من جرأة علي الله، و من استهانة بأوليائه و أصفيائه و حملة دعوته!!! فانك اذا راقبت أفعال معه، تظن أن هذا الخليفة التعيس كان متفرغا لأذيته عليه السلام، راصدا قسطا كبيرا من وقته لمحاولة انتقاص قدره، اذ ظل أكثر وقته يتعمد الحط من شأنه، و ما فتي ء يضيق عليه الي أن بتر الله تعالي عمره... اذا لما حاول قتله فعلا، قتله الله تعالي شر قتلة فاختلطت أشلاؤه المقطعة اربا اربا بأشلاء وزيره قبل أن ينال بغيته اللئيمة كما ستري.



[ صفحه 118]



نعم، قد تحداه كثيرا ليوقعه في فخاخ مكائده فأنجاه الله!. و أراد مرارا أن يزل لسانه بكلمة فيأخذه بها أخذا ظالما، فجل لسان المعصوم عن أن يزل، و جلت قدرة الله سبحانه عن أن تخذل عبده الناطق بلسان توحيده، الصادع بأمره بين عباده!.

قال علي بن يحيي بن أبي منصور:

«كنت يوما عند المتوكل، و دخل علي بن محمد بن علي بن موسي عليهم السلام. فلمان جلس قال له المتوكل: ما يقول ولد أبيك في العباس بن عبدالمطلب؟.

قال: ما يقول ولد أبي، يا أميرالمؤمنين، في رجل فرض الله طاعة نبيه علي خلقه، و فرض طاعته علي نبيه صلي الله عليه و آله و سلم؟» [22] .

فجاء الجواب مسكتا... بليغا غاية البلاغة، لا ذكر فيه للعباس لمن دقق النظر، و لا ممسك فيه علي الامام عليه السلام، و ان كان يحتمل أكثر من وجه حين يفسر حسب مشيئة المفسر؛ فان امامنا سلام الله عليه و تحياته و بركاته قد قصد: ان الله تعالي فرض طاعة النبي علي الخلق، ثم فرض طاعته - أي طاعة الله سبحانه - علي نبيه، و لم يقصد العباس في الضمير الواقع في آخر لفظة «طاعته».

و اذا فرضنا أن ذلك لم يخف علي المتوكل، فان المتوكل رضي بالجواب و «أراد» أن يفهم الكلام علي أساس أن الله تعالي فرض طاعة العباس علي النبي، أمام الناس؛ و كانت بغيته أن يقول الامام عليه السلام قولا لا



[ صفحه 119]



يحتمل الجدل... فهل يفتح المتوكل علي نفسه بابا مغلقا و يطلب التفسير؟!. لا، قطعا.

و مع ذلك فان مزوري الحقائق التاريخية من عملاء السلطان و الزمان، لما أدركوا النكتة الخفية عمدوا الي اللعب باللفظ لتغيير المعني الذي أراده الامام سلام الله عليه، و لينزعوا عن هذا الجواب الكريم بلاغته الفائقة و عمقه العجيب، فامتدت أيديهم الآثمة اليه فجعلته علي لسان محمد بن يزيد المبرد هكذا:

«قال المتوكل لأبي الحسن، علي بن محمد، بن موسي، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب، رضي الله عنهم: ما يقول ولد أبيك في العباس بن عبدالمطلب؟!.

قال: و ما يقول ولد أبي، يا أميرالمؤمنين، في رجل افترض الله طاعة نبيه علي خلقه، و افترض طاعته علي بنيه؟.

فأمر له بمئة ألف درهم!.

و انما أراد أبوالحسن طاعة الله علي بنيه، و قد عرض» [23] - أي أنه عليه السلام نبه بني العباس الي وجوب طاعة الله...

و يظهر تزويق الكلام في أول هذه الرواية المكذوبة الموضوعة، حيث بدأها الراوي بذكر نسب الامام الي جده علي بن أبي طالب عليه السلام... و هي ظاهرة الوضع لأن الله تعالي لم يفرض طاعة بني العباس علي الخلق، و لا هو نصبهم خلفاء له علي عباده من جهة، و لا الناس حكموهم باختيار أو انتخاب أو شوري فلزمتهم طاعتهم من جهة ثانية، و لأن الامام عليه السلام لا يشتغل في القصر بالأجرة ككذبة الرواة و مزورة التاريخ، و لا مدح ليقبض المئة ألف درهم التي ذيل بها المزور روايته من جهة أخري.



[ صفحه 120]



فقد تلاعب الرواي بتبديل لفظة «نبيه» بلفظة «بنيه» فغير المعني، و جعل الجواب منطويا علي ممالأة سافرة يبعد الامام عنها بعدا لا متناهيا لأنه من الذين (لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا...) [24] و لا يقول بغير علمه الصحيح الذي تلقاه عن الوحي الذي نزل علي جده المصطفي صلي الله عليه و آله و سلم.

أما العبارة التي ذيل بها الراوي المزور روايته حين قال: و انما أراد أبوالحسن طاعة الله علي بنيه، و قد عرض، فانها «رقعة» فاقع لونها جاءت من غير جنس الثوب المرقوع بها، و فضحت الكذب و التعمل و الدس!. و الرواية الأولي هي الصحيحة جزما، لأنها تنم عن عقيدة الامام الذي لا يقول الا الحق و لا يخاف في القول الا الله جل و علا، و هو لا يشتري رضي أحد من المخلوقين بسخط الخالق، و لا يداري و لا يرائي و لا يهاب في الصدق لوما و لا يخشي غرما.

... و في كل الأحوال لا حظ هذا الاحراج المفاجي ء الذي زج المتوكل فيه الامام حين فاجأه بهذا السؤال المحرج فور جلوسه، تر أن اللؤم يسيل علي لسانه، و الحقد يتفجر من قلبه، اذا أراد أن يحرجه فيخرجه لينتقم منه، فلقاه الله سبحانه الجواب الذي يلجم الخصم و لا يغير من الحق حرفا.

و كذلك تحرش المتوكل بالامام عليه السلام في سؤاله عن جده أبي طالب - كما في رواية علي بن عبدالله الحسني الذي قال:

«ركبنا مع سيدنا أبي الحسن عليه السلام الي دار المتوكل في يوم السلام - يوم العيد - فسلم سيدنا أبوالحسن عليه السلام، و أراد أن ينهض فقال له المتوكل:



[ صفحه 121]



تجلس يا أباالحسن، اني أريد أن أسألك.

فقال له: سل.

فقال له: ما في الآخرة شي ء غير الجنة و النار يحلون به الناس؟.

فقال أبوالحسن عليه السلام: ما يعلمه الا الله.

فقال له: فمن علم الله أسألك.

قال: و من علم الله أخبرك.

قال: يا أباالحسن، ما رواه الناس أن أباطالب يوقف اذا حوسب الخلائق بين الجنة و النار في رجله نعلان من نار يغلي منها دماغه، و لا يدخل الجنة لكفره، و لا يدخل النار لكفالته رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و صده قريشا عنه، و أيسر علي يده حتي ظهر أمره؟!.

قال له أبوالحسن عليه السلام: ويحك!. لو وضع ايمان أبي طالب في كفة، و وضع ايمان الخلائق في الكفة الأخري، لرجح ايمان أبي طالب علي ايمانهم جميعا.

قال له المتوكل: و متي كان مؤمنا؟.

قال له: دع ما لا تعلم، واسمع ما لا يرده المسلمون جميعا و لا يكذبون به...

فأطرق المتوكل... و نهض عنه أبوالحسن عليه السلام» [25] .

و لا جرم أن يطرق هذا المتوكل علي غير ربه، أمام تسفيه الامام، و مقابل زجره له، فان ايمان أبي طالب عليه السلام يدل عليه شعره، و قوله، و فعله، لأنه كان الحامي الوحيد للرسالة و الرسول مدة حياته الكريمة التي



[ صفحه 122]



لا قي فيها المصاعب الشاقة دفاعا عن ابن أخيه صلي الله عليه و آله و سلم و عن دعوته.

و في الواقع لم يعرف أن يقف مع المتوكل موقف ثأر لنفسه الا ذاك الحنفي [26] الذي روي محمد بن العلا السراج قصته - نقلا عن البختري - فقال

«قال البختري: كنت بمنبج - بلدة قرب حلب - بحضرة المتوكل، اذ دخل عليه رجل من أولاد محمد بن الحنفية، حلو العينين حسن الثياب، قد قرف عنده بشي ء- أي اتهم بجرم -. فوقف بين يديه و المتوكل مقبل علي الفتح - بن خاقان - يحدثه.

فلما طال وقوف الفتي بين يديه و هو لا ينظر اليه قال: يا أميرالمؤمنين، ان كنت أحضرتني لتأديبي، فقد أسأت الأدب!. و ان كنت قد أحضرتني ليعرف من بحضرتك من أوباش الناس استهانتك بأهلي، فقد عرفوا.

فقال له المتوكل: و الله يا حنفي، لو لا ما يثنيني عليك من أوصال الرحم، و يعطفني عليك من مواقع الحلم، لا نتزعت لسانك بيدي، و لفرقت بين رأسك و جسدك و لو كان بمكانك محمد أبوك!.

قال: ثم التفت الي الفتح فقال: أما تري ما نلقاه من آل أبي طالب؟!. اما حسني يجذب الي نفسه تاج عز نقله الله الينا قبله، أو حسيني يسعي في نقض ما أنزل الله الينا قبله، أو حنفي يدل بجهله أسيافنا علي سفك دمه.

فقال له الفتي: و أي حلم تركته لك الخمور و ادمانها، أم العيدان و قتيانها؟!. و متي عطفك الرحم علي أهلي و قد ابتززتهم فدكا ارثهم من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، فورثها أبوحرملة؟!.



[ صفحه 123]



و أما ذكرك محمدا، أبي، فقد طفقت تضع من عز رفعه الله و رسوله، و تطاول شرفا تقصر عنه و لا تطوله!. و أنت كما قال الشاعر:



فغض الطرف، انك من نمير

فلا كعبا بلغت، و لا كلابا



ثم ها أنت تشكو الي علجك هذا - أي الفتح بن خاقان الذي هو تركي لا عربي - ما تلقاه من الحسني و الحسيني و الحنفي... ف(لبئس المولي و لبئس العشير (13))!. [27] - أي بئس الوزير وزيرك -.

ثم مد رجليه، ثم قال: هاتان رجلاي لقيدك، و هذه عنقي لسيفك!. فبؤ باثمي، و تحمل ظلمي، فليس هذا أول مكروه أوقعته أنت و سلفك بهم!.

يقول الله تعالي: (قل لآ أسئلكم عليه أجرا الا المودة في القربي)... [28] فوالله ما أجبت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عن مسألته، و لقد عطفت بالمودة علي غير قرابته، فعما قيل ترد الحوض فيذودك أبي، و يمنعك جدي صلوات الله عليهما.

قال: فبكي المتوكل، ثم قام فدخل الي قصر جواريه... فلما كان من الغد أحضره و أحسن جائزته و خلي سبيله» [29] .

حقا ان قول هذا الحنفي رضوان الله عليه يفش الخلق... و ان كان لا يوصل الي حق!.

و لك أن تسألني: لم لا يقف الامام عليه السلام من الخلفاء و الظلمة مثل هذا الموقف... فأجيبك فورا أن مثل هذا الموقف ليس من وظيفة الامام، و لا هو يرضاه من أحد مقربيه، لأن واجبه يتلخص بحفظ الدين و بالمحافظة



[ صفحه 124]



علي المتدينين و ينحصر بدفع أذي الظلمة من السلاطين عنهم ليبقي من يعبد الله في الأرض حق عبادته و يعتنق شريعته السماوية المقدسة التي أنزلها دون زيادة و لا نقصان. و مثل هذا الموقف يضر بالامام و بأتباعه و أشياعه فيستأصل الظالم شأفتهم و يقطع دابرهم، و لذا كان مأمورا بالصبر علي أذاهم ليبقي حرا في اعلان كلمة الله تعالي في عهد قاس ضال لا يتورع السلطان فيه عن قتل النبي و الوصي في سبيل ملكه!. فصبره علي تجرع الغصص التي كان يعانيها في زمانه مفروض عليه، و ملازم لوظيفته السماوية...

هذا، و ان المتوكل كان يري من دلائل امامة هذا الشاب السري صلوات الله عليه، ما يحار به لبه. ولكن، اذا أطاع الانسان شيطانه مرة، فانتظر له أن يجري الشيطان منه مجري الدم و النفس في كل مرة... و حينئذ تري لحيته مع لحي «التيوس»... في قبضة ابليس... و تراه يتولي كبره و يغلق قلبه دون الكلمة المنصفة، و لا يتحكم بأذنيه الا الصارفون له عن الحق!.

فالآيات كانت تصابح المتوكل و تماسيه؛ و معاجز الامام عليه السلام كانت تسد منافذ بصره... ولكنه كان علي ضلاله... لأن الايمان بالامام يقضي بزوال ملكه... و بزواله!.

قال أبوهاشم الجعفري رحمه الله:

«كان للمتوكل مجلس بشبابيك كيما تدور الشمس في حيطانه، و قد جعل فيه طيورا مصوتة، فاذا كان يوم السلام جلس في ذلك المجلس، فاذا دخل اليه أحد لم يسمع و لم يسمع ما يقول لا ختلاف أصوات تلك الطيور!. فاذا وافاه علي بن محمد الرضا عليهماالسلام سكنت الطيور جميعا... فاذا خرج من باب المجلس عادت في أصواتها!.

قال: و كان عنده عدة من القوابج - الحجل و الكروان - في الحيطان



[ صفحه 125]



- أي في الحدائق -. فكان يجلس في مجلس له عال، و يرسل تلك القوابج تقتتل و هو ينظر اليها و يضحك منها... فاذا وافي علي بن محمد عليهماالسلام ذلك المجلس، لصقت القوابج بالحيطان فلا تتحرك من مواضعها حتي ينصرف. فاذا انصرف عادت في القتال» [30] .

فما أحري الانسان بأن يتعلم الأداب من مثل هذا الحيوان... يا خليفة الزمان!.

أما كان الأليق بالعاقل أن يتفكر، و يتدبر... بدل أن يحقد، و يتكبر؟!.

و حقيق بمن كان يملك رشدا أن يختار لنفسه الأولي و الأحجي... و من يدع بأنك لم تدرك هذه الظواهر الغريبة من الطيور أثناء وجود الامام عليه السلام، نقل له: أخطأت في ادعائك و غمست لقمتك خارج الصحن، لأن الطيور المتقاتلة الصاخبة لم يكن ليهدأ صخبها الا بحضرة الامام الذي هو حجة الله علي مخلوقاته من الانس و الجن و جميع ذوات الأرواح... و بمرأي من خليفة المسلمين الذي لم يكن عديم الفهم و لا قليل الادراك... و الذي هو من أسرة استعدت لبني علي عليه السلام... و العدو لا يكون صديقا بوجه من الوجوه!. ولكن لم لا يكون مسلما مسلما بمشيئة الله و تقديره في خلقه؟! و اذا استعدي لعلي و نبيه فلم استعدي لله و لتقديره في مخلوقاته؟!.

انه خليفة خائب يريد أن ينزع عن الامام عليه السلام ما ألبسه الله تعالي من سربال عظمته و هيبته و وقاره، و يحاول كانسان أن يقف بوجه ارادة رب... فانقلب حسيرا، بقيت غصته في صدره كما بقيت أحقاد آبائه مدفونة معهم في صدورهم... و قبورهم!.



[ صفحه 126]



و اليك مكيدة دبرها الخليفة و أعوانه في ليل، ليمكروا بالامام عليه السلام فتجلي فيها سره الآلهي و قلب مكرهم علي رؤوسهم صاعقة ما حقة بمعني المحق الواقعي. فان زارفة - حاجب المتوكل - قال:

«وقع رجل مشعوذ يلعب بالحقة لم يرمثله - و الحقة علبة من خشب يضعفون فيها شيئا يراه الناس و يغلقونها، ثم يفتحونها فلا يجدون شيئا-.

و كان المتوكل لعابا - كثير اللعب - فأراد أن يخجل علي بن محمد ابن الرضا عليهم السلام، فقال لذلك الرجل: ان أنت أخجلته فلك ألف دينار زكية.

قال- المشعوذ - فتقدم - أي أعط أوامرك - أن يخبز رقاق خفاف تجعل علي المائدة، أقعدني الي جنبه... ففعل.

و أحضر علي بن محمد عليهماالسلام للطعام، و جعل له مسورة - متكأ من جلد - عن يساره كان عليها صورة أسد. و جلس اللاعب الي جنب المسورة.

فمد علي بن محمد عليهماالسلام يده الي رقاقة - من الخبز - فطيرها اللاعب في الهواء... و مد يده الي أخري، فطيرها... فتضاحك الناس.

فضرب علي بن محمد عليهماالسلام يده علي تلك الصورة - صورة الأسد. التي علي المسورة و قال: خذ عدو الله!.

فوثبت تلك الصورة من المسورة فابتعلت الرجل اللاعب، و عادت الي المسورة كما كانت!.

فتحير الجميع... و نهض علي بن محمد عليهماالسلام ليمضي، فقال المتوكل: سألتك بالله الا جلست ورددته.

فقال: و الله لا يري بعدها!. أتسلط أعداء الله علي أوليائه؟!!

و خرج من عنده، و لم ير الرجل بعد ذلك [31] .



[ صفحه 127]



و قد رويت هذه الحادثة في مشارق الأنوار، عن البرسي، عن محمد بن الحسن الجهني الذي قال:

«حضر مجلس المتوكل مشعبذ هندي، فلعب عنده بالحق، فأعجبه، فقال: يا هندي، الساعة يحضر مجلسنا شريف، فاذا حضر فالعب عنده ما يخجله.

قال: فلما حضر أبوالحسن عليه السلام المجلس، لعب الهندي، فلم يلتفت اليه، فقال له: يا شريف ما يعجبك لعبي؟. كأنك جائع؟. ثم أشار الي صورة مدورة في البساط علي شكل الرغيف، و قال: يا رغيف، مر علي هذا الشريف... فارتفعت الصورة.

فوضع أبوالحسن عليه السلام يده علي صورة سبع في البساط، و قال: قم فخذ هذا؟. فصارت الصورة سبعا و ابتلع الهندي و عاد الي مكانه في البساط!.

فسقط المتوكل لوجهه، و هرب من كان قائما» [32] .

فسبحان من تجلت عنايته بعبده الصالح الذي اختاره لأمره و قضيته، و جعله حجة علي بريته، و نصره علي من أراد أن ينال من قدسيته الربانية و ينتقص من قدره في مجالس لهوه و طيشه!.



[ صفحه 128]



و قد قال جحا لزوجته: تقولين أن القط أكل اللحم الذي اشتريته. و قد وزنت القط فكان وزنه بوزن اللحم!. فاذا كان هذا القط، فأين اللحم؟... و اذا كان هذا اللحم، فأين القط؟!.

و نحن نقول للمتوكل: وضع الامام عليه السلام يده المباركة علي صورة الأسد و قال له: قم فخذ هذا!. فانبعثت الصورة أسدا هائجا ابتلع صاحبك الهندي و عاد الي مكانه في الصورة... فاذا كانت هذه الصورة، فأين هنديك بجسده و لحمه و عظمه و هامته؟!! و كيف ابتلعته صورة مرسومة علي مسندك و غيبته بما فيه و بما معه، و جعلته طي العدم، ثم عادت صورة كما كانت؟!!. و اذا كان الهندي قد تحول الي صورة علي بساطك فأين الأسد الزائر الذي أسقطك علي وجهك هلعا؟!!.

أفلم يظهر لهذا العابث اللاهي الذي تسمي «خليفة المسلمين» أن عمل الامام عليه السلام لم يكن سحرا و لا شعوذة، بل هو آية صدرت عنه باذن ربه لما تحدي الخليفة ارادة ربه؟!. و ان من نصب نفسه لامارة المؤمنين، و قعد مقعد سيد المرسلين، لا ينبغي له أن يتنقص من آل الله و صفوته و خلصائه!. فان قدرة الله عز اسمه لا يقوم لها شي ء... و لن تلهينا فاجعتك بالهندي، يا أميرالمسلمين، عن أن نسألك - عما هو أهم من فاجعتك به. ذلك أنه كيف تدفع للمشعوذ ألف دينار زكية من بيت مال المسلمين و حولك الألوف و الألوف من الجوعي و المحرومين من المسلمين؟!.

ثم تنتقل بنا آلة التصوير الي فعل الله عزوجل مع المتوكل نفسه حين أراد أن يفتري علي الامام و ينسب اليه السوء. فقد قال فارس بن حاتم بن ماهويه:

«بعث يوما المتوكل الي أبي الحسن عليه السلام: أنا راكب فاخرج معنا الي الصيد لنتبرك بك.



[ صفحه 129]



فقال- أي الامام عليه السلام - للرسول: قل له: اني راكب.

فلما خرج الرسول قال - الامام - لنا: كذب، ما يريد الا غير ما قال.

قلت: يا مولانا، فما الذي يريد؟.

قال: يظهر هذا القول - أي التبرك به - فان أصابه خير نسبه الي ما يريد بنا مما يبعده من الله، و ان أصابه شر نسبه الينا. و هو يركب في هذا اليوم و يخرج الي الصيد، فيرد هو وجيشه علي قنطرة علي نهر، فيعبر سائر الجيش و لا تعبر دابتي، فيرجع و يقط عن فرسه، فتزل رجله و تتوهن يداه و يمرض شهرا.

قال فارس: فركب سيدنا و سرنا في المركب معه، و المتوكل يقول: أين ابن عمي المدني؟. أي الامام عليه السلام الذي لم يدر اسمه علي لسان الخليفة فقال: المدني -.

فيقال له: سائر يا أميرالمؤمنين في الجيش.

فيقول: ألحقوه بنا.

ووردنا النهر و القنطرة، فعبر سائر الجيش و تشعشت القنطرة و تهدمت و نحن نسير في أواخر الناس مع سيدنا، و رسل المتوكل تحثه... فلما وردنا النهر و القنطرة امتنعت دابته أن تعبر، و عبر سائر دوابنا. فاجهدت رسل المتوكل عبور دابته فلم تعبر. و عبره المتوكل فلحقوا به. و رجع سيدنا.

فلم يمض الا ساعات حتي جاءنا الخبر أن المتوكل سقط عن دابته، و زلت رجله و توهنت يداه، و بقي عليلا شهرا... و عتب علي أبي الحسن عليه السلام، و قال: انما رجع عنا لئلا يصيبنا هذه السقطة فنشأم.

فقال أبوالحسن عليه السلام: صدق الملعون، و أبدي ما في نفسه» [33] .



[ صفحه 130]



فيا أيها الملعون علي لسان امامنا الهاشمي القرشي «المدني» عليه السلام، و الملعون معك راوي هذه الحادثة الذي أمر الامام بقتله لكفره فيما بعد - اننا نقول لك: (و من الناس من يعبد الله علي حرف فان أصابه خير اطمأن به و ان أصابته فتنة انقلب علي وجهه خسر الدنيا و الأخرة ذلك هو الخسران المبين (11)) [34] .

فقد انقلبت علي وجهك عن ظهر فرسك، و بؤت بعار هذه الآية الكريمة و شنارها بعد أن توهنت يداك و مرضت شهرا كاملا كما قال أبوالحسن عليه السلام حين علم ما في نفسك... و انه لقذي في عينك و شجا في حلقك!. و قد رجع من رحلتك المشؤومة بسلام بعد أن صدق قوله فيك!.

و أنت هو ذاك الذي يعبد الله علي حرف... اذا أضمرت ان أصبت خيرا أن تتزلف و ترائي و تقول للامام: هذا ببركتك، و ان أصابك شر أن تتشأم به...

و لأنت كالمعاندين لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الذين وصفهم سبحانه بقوله الكريم: (و ان تصبهم حسنة يقولوا هذه من عندالله و ان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك...) [35] .

قال محمد بن مسعود:

«قال يوسف بن السخت: كان علي بن جعفر - عم جد الامام - وكيلا لأبي الحسن صلوات الله عليه. و كان رجل من أهل همينيا - قرية من سواد بغداد - قد سعي به الي المتوكل فحبسه فطال حبسه. و احتال - أي قبلت حوالته كاخلاء سبيل له - من قبل عبدالرحمان بن خاقان بمال ضمنه عنه: ثلاثة آلاف دينار.



[ صفحه 131]



و كلم - الضامن - عبيد الله بن يحيي بن خاقان - وزير المتوكل، فعرض حاله علي المتوكل فقال: يا عبيدالله لو شككت فيك لقلت انك رافضي. هذا وكيل فلان - أي الامام عليه السلام - و أنا علي قتله - أي مصمم علي قتله -.

قال: فتأدي الخبر الي علي بن جعفر - المحبوس - فكتب الي أبي الحسن عليه السلام: يا سيدي الله الله في، فقد و الله خفت أن أرتاب.

فوقع رقعته: أما اذا بلغ بك الأمر ما أري، فسأقصد الله فيك.

و كان هذا في ليلة الجمعة، فأصبح المتوكل محموما... فازدادت عليه حتي صرخ عليه يوم الاثنين - أي أعلن قرب احتضاره -. فأمر بتخلية كل محبوس عرض عليه اسمه، حتي ذكر هو علي بن جعفر و قال لعبيد الله - وزيره -: لم لم تعرض علي أمره؟!.

فقال: لا أعود لذكره أبدا. - خوف اتهامه بكونه رافضيا-.

قال: خل سبيله الساعة و سله أن يجعلني في حل.

فخلي سبيله، و صار الي مكة بأمر أبي الحسن عليه السلام مجاورا بها... و بري ء المتوكل من علته» [36] .

و قال علي بن جعفر بهذه المناسبة:

«عرضت أمري علي المتوكل فأقبل علي عبيدالله بن يحيي بن خاقان فقال: لا تتعبن نفسك بعرض قصة هذا و أشباهه، فان عمك أخبرني أنه رافضي و أنه وكيل علي بن محمد... و حلف أن لا يخرج من السجن الا بعد موته. فكتبت الي مولانا: ان نفسي قد ضاقت، و اني أخاف الزيغ.



[ صفحه 132]



فكتب الي: أما اذا بلغ الأمر منك ما أري، فسأقصد الله فيك.

فما عادت الجمعة حتي أخرجت من السجن» [37] .

فهلا أتعظ بها الخليفة الغاضب الذي بات ليلته مصمما علي قتله، و أفاق علي معاناة الحمي التي كادت تؤدي بحياته؟!! قطعا، لا... و من لم يكن له من نفسه واعظ، لا تنفعه المواعظ... و ما أبعد أرباب الممالك عن ترك جبروتهم الذي يوردهم المهالك!.

و حدث أبوالحسين، سعيد بن سهل البصري الذي كان حاجبا للمتوكل، و كان يلقب بالملاح، فقال:

«دلني أبوالحسن، و كنت واقفيا - و غير قائل بامامته - فقال: الي كم هذه النومة؟. أما آن لك أن تنتبه منها؟!. فقدح في قلبي شيئا، و غشي علي، و اتبعت الحق» [38] .

و روي مثل هذا الخبر عنه نفسه، فقال:

«كان جعفر بن القاسم الهاشمي البصري يقول بالوقف - أي لا يعترف بامام زمانه - و كنت معه بسر من رأي اذ رآه أبوالحسن - عليه السلام - في الطريق، فقال: الي كم هذه النومة؟. أما آن لك أن تنتبه منها؟!.

فقال لي جعفر: أما سمعت ما قال لي علي بن محمد؟!. قد والله وقع في قلبي شي ء - أي قد تأثر بقول الامام له، لأنه علم ما في نفسه من الوقف، رغم أنه لم يصرح بذلك.



[ صفحه 133]



فلما كان بعد أيام، حدث لبعض أولاد الخليفة وليمة، فدعانا اليها، و دعا أباالحسن معنا. فدخلنا، فلما رأوه أنصتوا اجلالا له.

و جعل شاب في المجلس لا يوقره، و أخذ يتحدث، و يلغط، و يضحك.

فأقبل - الامام - عليه فقال له: يا هذا، أتضحك بمل ء فيك، و تذهل عن ذكر الله و أنت بعد ثلاثة أيام من أهل القبور؟!.

قال جعفر بن القاسم الهاشمي: فأمسك الفتي، و كف عما هو عليه، و طعمنا و خرجنا... فلما كان بعد يوم اعتل الفتي؛ و مات في اليوم الثالث من أول النهار، و دفن فيه!» [39] .

و قبل أي تعليق علي هذه الآية الكريمة الصادرة عن امامنا العظيم صلوات الله عليه، نورد للقاري ء آية مشابهة لها، رواها سعيد بن سهل البصري - أيضا - فقال:

«اجتمعنا في وليمة لبعض أهل سر من رأي، و أبوالحسن - عليه السلام - معنا. فجعل رجل يعبث و يمزح و لا يري له جلالة - أي لا يوقر الامام -.

فأقبل الامام علي جعفر - بن القاسم الهاشمي - فقال: أما انه لا يأكل من هذا الطعام. و سيرد عليه من خبر أهله ما ينغص عليه عيشه.

قال: فقدمت المائدة، و قال جعفر - الواقفي -: ليس بعد هذا خبر. قد بطل قوله!. - أي لم يتحقق ما قاله الامام، و قد رأي جعفر ذلك بنفسه... و الرجل لا يزال يعبث -. فوالله قد غسل الرجل يديه و أهوي الي الطعام، فاذا غلامه قد دخل من باب البيت يبكي و قال له: الحق أمك، فقد وقعت من فوق سطح البيت، و هي في الموت!.



[ صفحه 134]



قال جعفر: و الله لا وقفت بعد هذا!. و قطعت عليه» [40] - اعترف بامامته عليه السلام -.

فتبارك ربك الذي اجتباك لعزائم أمره يا أباالحسن، و اصطفاك لحمل الكلمة العظمي و الدعوة الكبري!.

و كم هي ساهرة عينه سبحانه علي كرامتك يا وليه في أرضه!.

فكثيرا ما حاولوا النيل من جاهك عند الله، فتلقاهم ربك بقاصمة قطعت منهم حبل الوريد، و لوت عنق كل جبار عنيد!.

و خسي ء شاب غر، أو رجل عابث، أن يتطاولا الي سامي المرتبة التي رتبك الله تعالي فيها. و خسر من ناواك خسرانا عظيما، و ضل من ضل عن عيبة علمك و جزيل فضلك ضلالا مبينا...

و بقيت أنت أنت في سمو معناك و في سمو ذاتك... سفيرا لله، محصنا من لدنه...يسند ظهره الي ركن ركين...

و روي الفحام، عن أبي الحسن محمد بن أحمد، عن عم أبيه، قائلا:

«قصدت الامام عليه السلام يوما فقلت: يا سيدي، ان هذا الرجل - أي المتوكل، لأن العلم المذكور من حجابه - قد اطرحني و قطع رزقي، و ملني. و ما أتهم في ذلك الا علمه بملازمتي لك. و اذا سألته شيئا منه يلزمه القبول منك، فينبغي أن تتفضل علي بمسألته.

فقال: تكفي ان شاء الله.

فلما كان في اليل طرقني رسل المتوكل رسول يتلو رسولا، فجئت



[ صفحه 135]



و الفتح بن خاقان علي الباب قائم، فقال: يا رجل ما تأوي في منزلك بالليل؟!. كدني هذا الرجل - أي المتوكل - مما يطلبك.

فدخلت و اذا المتوكل جالس علي فراشه، فقال: يا أباموسي، نشغل عنك و تنسينا نفسك؟. أي شي ء لك عندي؟.

فقلت: الصلة الفلانية، و الرزق الفلاني. و ذكرت أشياء فأمر لي بها و بضعفها!.

فقلت للفتح: وافي علي بن محمد الي هاهنا؟.

فقال: لا.

فقلت: كتب رقعة؟!.

فقال: لا.

فوليت منصرفا، فتبعني فقال لي: لست أشك أنك سألته دعاء لك. فالتمس لي منه دعاء.

فلما دخلت اليه عليه السلام، قال لي: يا أباموسي، هذا وجه الرضا.

فقلت: ببركتك يا سيدي. ولكن قالوا لي: انك ما مضيت اليه، و لا سألته!.

فقال: ان الله تعالي علم منا أنا لا نلجأ في المهمات الا اليه، و لا نتوكل في الملمات الا عليه، وعودنا اذا سألناه الاجابة؛ و نخاف أن نعدل فيعدل بنا.

قلت: ان الفتح قال لي كيت و كيت. - أي طلب التماس دعاء -.

قال: انه يوالينا بظاهره، و يجانبنا بباطنه. الدعاء لمن يدعو به - أي تابع لحال الداعي -. اذا أخلصت في طاعة الله، و اعترفت برسول الله صلي الله عليه و آله و سلم



[ صفحه 136]



و بحقنا أهل البيت، و سألت الله تبارك و تعالي شيئا لم يحرمك.

قلت: يا سيدي، فتعلمني دعاء أختص به من الأدعية؟.

قال: هذا الدعاء كثيرا ما أدعو الله به، و قد سألت الله أن لا يخيب من دعا من في مشهدي بعدي، و هو هذا:

يا عدتي عند العدد، و يا رجائي و المعتمد، و يا كهفي و السند، و يا واحد يا أحد، يا قل هو الله أحد، أسألك اللهم بحق من خلقتهم من خلقك و لم تجعل في خلقك مثلهم أحدا، أن تصلي عليهم و تفعل بي كيت و كيت» [41] .

فمذ أراد أبوالحسن عليه السلام الفرج لصاحبه المظلوم الذي يتولاه، قضي الله تعالي له المراد!. فقد عوده سبحانه الجميل لأنه لا يصانع غير وجهه الكريم - أكرم الوجوه - و لا يطرق الا بابه، و لا يلجأ في مهماته و ملماته الا الي حضرة قدسه التي لا ينطق الا بأمرها، و لا يعمل الا بوحيها و الهامها.

أفرأيت أيها المتوكل... كيف يديل الله تعالي أولياءه من أعدائه؟!. و شعرت كيف بدل سبحانه غضبك و سخطك علي الرجل باعتذار منك له عن تقصيرك بحقه فاندفعت تضاعف له عطاياه و صلاته؟!. غيرك يحس، و يتدبر... و أنت سادر في نشوة الحكم و المكث في قصر «امارة المؤمنين» الذي انقلب بوجودك الي ماخور تنبعث منه روائح الخمر، و الفسق، و الدعارة، و الفجور...

و في المعتمد في الأصول، قال علي بن مهزيار:



[ صفحه 137]



«وردت العسكر و أنا شاك في الامامة؛ فرأيت السلطان قد خرج الي الصيد في يوم من الربيع الا أنه صائف، و الناس عليهم ثياب الصيف، و علي أبي الحسن عليه السلام لبادة و علي فرسه تجفاف لبود، و قد عقد ذنب الفرس و الناس يتعجبون و يقولون: ألا ترون الي هذا المدني و ما قد فعل بنفسه؟!.

فقلت في نفسي: لو كان هذا اماما ما فعل هذا.

فلما خرج الناس الي الصحراء، لم يلبثوا الا أن ارتفعت سحابة عظيمة هطلت فلم يبق أحد حتي غرق بالمطر، و عاد عليه السلام و هو سالم من جميعه!. فقلت في نفسي: يوشك أن يكون هو الامام... ثم قلت: أريد أن أسأله عن الجنب اذا عرق في الثوب: فقلت في نفسي! ان كشف وجهه فهو الامام.

فلما قرب مني كشف وجهه ثم قال: ان كان عرق الجنب في الثوب و جنايته من حرام لا يجوز الصلاة فيه، و ان كان جنابته من حلال فلا بأس.

فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة» [42] .

و لن نتجاوز هذه الحادثة قبل أن نشير الي أن هذا «المدني» سلام الله عليه و تحياته كان وحده - من بين الخارجين في موكب السلطان - اماما عالما بما يكون، عارفا بكل خطوة يخطوها، و بكل ما يدور حوله من أحداث طبيعية و مصطنعة، معرفة أوتيها من ربه سبحانه الذي أكرمه و نعمه، و أطلعه علي تقديره و تدبيره، و عرفه ما تكن نفس كل انسان و ما يجيش بضميره، ليكون حجة له تعالي علي خلقه، و شاهدا علي عباده. و لو لا ذاك لما لبس اللباد و لا وضع علي فرسه التجفاف، و لا كشف عن وجهه لعلي بن مهزيار، و لما أفتاه بحكم عرق الجنب من غير أن يسأله.



[ صفحه 138]



هكذا يكون الامام المنتجب من ربه... و من لم يكن كذلك فليس بامام!.

و شبيه بذلك ما حدث به علي بن يقطين بن موسي الأهوازي، اذ قال: «كنت رجلا أذهب مذاهب المعتزلة، و كان يبلغني من أمر أبي الحسن، علي بن محمد، ما أستهزي ء به و لا أقبله. فدعتني الحال الي دخولي بسر من رأي للقاء السلطان، فدخلتها. فلما كان يوم، و عد السلطان الناس أن يركبوا الي الميدان.

فلما كان من الغد ركب الناس في غلائل القصب - أي الملابس الناعمة من الكتان، و تلبس تحت الثياب - بأيديهم المراوح - لشدة الحر - و ركب أبوالحسن عليه السلام في زي الشتاء و عليه لباد و برنس، و علي سرجه تجفاف طويل، و قد عقد ذنب دابته و الناس يهزأون به و هو يقول: (ان موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب (81)؟!) [43] .

فلما توسطوا الصحراء، و جاوزوا الحائطين، ارتفعت سحابة و أرخت السماء عزاليها، و خاضت الدواب الي ركبها في الطين و لوثتهم أذنابها فرجعوا في أقبح زي و رجع أبوالحسن عليه السلام في أحسن زي و لم يصبه شي ء مما أصابهم. فقلت: ان كان الله عزوجل أطلعه علي هذا السر فهو حجة.

ثم انه لجأ الي بعض السقائف. فلما قرب نحي البرنس و جعله علي قربوس سرجه ثلاث مرات - و كنت قد نويت ان أخذ برنسه و جعله علي قربوس سرجه ثلاث مرات فهو الحجة، و نويت أن أسأله عن عرق الجنب أيصلي فيه أم لا؟. - ثم التفت الي و قال: ان كان من حلال فالصلاة في الثوب حلال، و ان كان من حرام فالصلاة في الثوب حرام...



[ صفحه 139]



فصدقته و قلت بفضله، و لزمته» [44] .

فلم لبس الامام اللباد و البرنس في يوم شامس حار ظهر فيه الناس بغلائل الحرير و القصب و حملوا المراوح؟. و لم لفت نظر الجميع بوضع التجفاف علي سرج دابته و عقد ذنبها مع علمه بأن ذلك يجلب النقد و التعجب؟.

انه فعل ذلك علي رؤوس الأشهاد، و في ذلك الموكب العظيم، ليظهر علمه و يفضح جهلهم به و بحقه... ليقبح ما هم عليه من عناد و مكابرة و مكايدة لاختيار الله تعالي و اصطفائه... و لينادي في ذلك الحشد الكثير: حي علي خير العمل... الذي يتجسد بالامام قولا و عملا بلا مشاحة، و بلا نزاع!.

و ان الامام الذي يعلم ما يعتمل في نفس ابن مهزيار - الشاك بامامته - و ما في نفس ابن يقطين - المعتزلي - و يجيبهما علي سؤاليهما اللذين لم يبوحا بهما لأحد - أقول ان هذا الامام عليه السلام ليقدم الدليل القاطع علي امامته لمن كان يلقي السمع و هو رشيد.



[ صفحه 140]




پاورقي

[1] الأنوار البهية: ص 262 - 261.

[2] ابراهيم: 15.

[3] الدخان: 45 و 46.

[4] كشفة الغمة: ج 3 ص 184 و بحاالأنوار: ج 50 ص 147.

[5] الطارق: 15 و 16.

[6] التوبة: 48.

[7] الصواعق المحرقة: ص 205 و بحارالأنوار: ج 50 ص 146 و ص 204 و مروج الذهب: ج 4 ص 86 و مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 416 و حلية الأبرار: ج 2 من ص 468 الي ص 473 بتفصيل و اف.

[8] مدينة المعاجز: ص 550.

[9] مروج الذهب: ج 4 ص 86.

[10] الصواعق المحرقة: ص 207.

[11] مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 416 و بحارالأنوار: ج 50 ص 149 و ص 204 و مدينة المعاجز: ص 549 و القصة مكررة بلفظ آخر في ص 550 و هي في حلية الأبرار: ج 2 من ص 468 الي ص 473 بتفصيل واف.

[12] المصدر السابق.

[13] فرائد السمطين: ج 2 ص 209 - 208 و بحار الأنوار: ج 50 ص 149 و مناقب آل أبي طالب: ج 54 ص 518.

[14] الأحزاب: 25.

[15] بحار الأنوار: ج 50 ص 124 و مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 417 و مدينة المعاجز: ص 541.

[16] المنافقون: 8.

[17] حلية الأبرار: ج 2 ص 446 نقلا عن تفسير القمي: ج 2 ص 298.

[18] المصدر السابق.

[19] بحارالأنوار: ج 50 ص 125 و مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 413 و مدينة المعاجز: ص 541.

[20] الشوري: 23.

[21] الحديد: 14.

[22] كشف الغمة: ج 3 ص 166 و بحارالأنوار: ج 50 ص 206 و الأنوار البهية: ص 266 - 265.

[23] مروج الذهب: ج 4 ص 11 - 10 و الأنوار البهية: ص 266 - 265.

[24] آل عمران: 199.

[25] حلية الأبرار: ج 2 ص 462 - 461 و مدينة المعاجز: ص 561 - 560.

[26] هو من ولد محمد بن الحنفية، بن علي بن أبي طالب عليه السلام.

[27] الحج: 13.

[28] الشوري: 23.

[29] بحارالأنوار: ج 50 ص 214 - 213.

[30] بحارالأنوار: ج 50 ص 149 - 148 و كشف الغمة: ج 3 ص 184 و باختصار، و هو في مدينة المعاجز: ص 549.

[31] الأنوار البهية: ص 253 و كشف الغمة: ج 3 ص 184 - 183 و بحارالأنوار: ج 50 ص 147 - 146 نقلا عن مختار الخرائج و الجرائح: ص 210 و هو في مدينة المعاجز: ص 549 و ص 560 و حلية الأبرار: ج 2 من ص 473 الي ص 475 بتفصيل. و قد حدثت قصة مثلها مع جده الامام الرضا عليه السلام حين سلط صورة أسدين كانت علي مسند المأمون، فنزلتا و صارتا أسدين حقيقيين، مزقا جسد حميد بن مهران لعنه الله حين هزي ء بالامام و تحدي قدرة الله تعالي فيه بين يدي المأمون و وزرائه و قضاته و مجلسه العام. أنظر بحارالأنوار: ج 49 ص 184 - 183.

[32] بحارالأنوار: ج 50 ص 211 و مدينة المعاجز: ص 547 و أنظر حلية الأبرار: ج 2 من ص 473 الي ص 475.

[33] مدينة المعاجز: ص 560 - 559.

[34] الحج: 11.

[35] النساء: 78.

[36] بحارالأنوار: ج 50 ص 184 - 183 و رجال الكافي: ص 505.

[37] بحارالأنوار: ج 50 ص 184 و رجال الكشي: ص 506.

[38] اعلام الوري: ص 347 - 346 و كشف الغمة: ج 3 ص 188 و بحارالأنوار: ج 50 ص 172 و ص 183 - 182 و مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 407 و ص 415 - 414 و ص 417 - 416 و مدينة المعاجز: ص 546.

[39] أنظر مصادر الرقم السابق.

[40] المصدر السابق.

[41] بحارالأنوار: ج 50 ص 128 - 127. و مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 411 - 410. باختصار آخره، و هو في مدينة المعاجز: ص 542.

[42] بحارالأنوار: ج 50 ص 174 - 173 و مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 414 - 413 و مدينة المعاجز: ص 553.

[43] هود: 81.

[44] بحارالأنوار: ج 50 ص 188 - 187 و مدينة المعاجز: ص 553.