بازگشت

بعض آياته نعم، و معجزاته


هذا العنوان ينفر بعض سامعيه قبل أن يطلعوا علي تفاصيله و حقيقة أمره. ولكنهم حين يعلمون أن مصدر الآيات كلها واحد، و هو الله سبحانه و تعالي - سواء أأنزلها للرحمة أم للنقمة، علي يد نبي أو يد وصي نبي، أو يد عبد صالح - فان المستغربين حينئذ لا يعجبون...

و ما زالت الآيات باذنه تعالي، و بقدرته و مشيئته، فلا عجب اذا - اذا أجراها علي يد النبي، و الوصي، و العبد الصالح... و لا ينبغي أن تنفر النفوس من ذكر الآيات و المعاجز و خوارق الطبيعة لمجرد أن العقول لا تستوعب حدوثها و لا يقدر الآخرون علي القيام بمثلها. فالأمر - بحد ذاته - يدور - اذا - بين أن الله تعالي قادر علي أن ينزلها، أو أنه - و العياذ به سبحانه - غير قادر!.

أما هو تبارك و تعالي فيقول في محكم كتابه: (قل - يا محمد للناس -: ان الله قادر علي أن ينزل ءاية ولكن اكثرهم لا يعلمون (37)) [1] و يقول عز من قائل: (... انما الآيات عند الله!.) [2] و قال تعالي أيضا: (و ما كان



[ صفحه 222]



لرسول أن يأتي باية الا بأذن الله...) [3] فمن صدق به - تعالي و عز قائلا - و آمن بأنها من عنده سبحانه، و أنه قادر علي انزالها متي شاء لمصلحة العباد و لحكمة تقتضيها مشيئته و لزوم الأمر، صدق بحدوثها. و من كذب بذلك فله مكان في حظيرة الملحدين و المكابرين يأوي اليها يوم الدين، و لا شأن لنا معه ما زال سيكون لجهنم حطبا.

فالآيات من عنده سبحانه... و لا تصدر الا عن أمره و بقدرته التي تفوق ما ألفه الناس عرفا وعادة، فتنزل علي يد الرسول لمصلحة أمته... و علي يد وصي رسوله - لأنه وليه علي الخلق - لاثبات وصايته و ولايته، فتكشف للناس علي يد كل منهما - صدق دعوته و كونه علي الحق... و لا غرابة في نزولها حين نؤمن بحكمة الله تعالي، و لا تجفل نفوسنا من اسمها بمقدار ما تجفل حين وقوعها و صدورها.

و هي انما تنزل لتهز ضمائر الناس و توقظها بعد اثارة اعجابهم... و لتفتح عليهم باب التفكر... و التدبر... و الاختيار بين طريق الحق، و طريق الباطل... و ان هي نزلت فانما تنزل في مناسبات يكون لا مناص منها، و لا مخرج الا بها، اذ تكون تلك المناسبات عظيمة يبارز الله تعالي فيها - علنا و عنادا - في قدرته، و تتحدي فيها مشيئته... فيظهر قدرته الفائقة الوصف...

فالنبي، و الوصي، بلا آيات، و بلا معاجز - يكونان منتدبين للأمر العظيم - الذي أقله حرب الكفر و أهل العناد - بلا سلاح و بلا عدة... و يكونان سفيرين لله تعالي مجردين من أهم عوامل القوة للوقوف في وجه التكذيب، و للثبات في ساحة الدفاع عن أمره عزوعلا... فالآيات و المعاجز سلاح سفير السماء في الأرض حين لا تنفع الحسني و لا الموعظة و لا الانذار. و هي رأس



[ صفحه 223]



ماله الرباني الذي يطرحه كرصيد كلما كشر الضلال في وجهه و تحدي الكفر قدرة ربه!.

أما أن يرسل الله نبيا و يكله الي نفسه، أو أن يختار حجة علي الناس و يصرف وجهه الكريم عند و لا يمنحه التسديد و التأييد، فأمران من المحال، اذ لا يعقل أن أبعث مندوبا عني يضارب في السوق التجاري - أو في البورصة و الحرب المالية - صفر اليدين و من غير مال، كما أن الدولة لا تلقي بالجندي في ساحة الحرب و الدفاع عن الوطن دون سلاح.

فاستهجان الآيات قائم في نفوس الناس من جهة أن الآتين بها هم «بشر» من البشر و يبدون كسائر الناس - و ان فاقوهم في المزايا الكريمة و الخلق الرفيع - ثم يقومون بالخوارق و يأتون بما لا يستطيع الناس أن يأتوا بمثله... أما لو كانت الخوارق تأتي عن أيدي أفراد من غير جنس البشر، فانه يكون للبشر منها موقف آخر. و لذا نري أنه ما من أناس جاءهم أنبياء يبشرون و ينذرون، الا (قالوا مآ أنتم الا بشر مثلنا) [4] فلا نؤمن لبشر... (أبشر يهدوننا؟!...) [5] (فكفروا و تولوا) [6] لهذا السبب أولا و بالذات.

فلو مسحنا من أذهاننا هذه الأفكار الموروثة الصدئة، لرأينا الأمر أبسط مما نتوهم، و لآمنا بالآيات و المعجزات و الخوارق التي يأتي بها النبي أو الوصي الذي تجهزه دولة السماء بكل ما تشاء له من قوة بعد أن جعلته «منتدبا عنها فوق العادة» و ذا حصانة لا يرفعها الا خالقها عزوجل.

و علي كل حال، مررنا بالكثير الكثير من آيات امامنا عليه السلام عبر



[ صفحه 224]



فصول هذا الكتاب منذ عهد ولادته و حتي هذا الفصل، و نشفع ذلك الذي مر، بهذه الطائفة التي نوردها فيما يلي، مستفتحين ذلك بقصتين مختصرتين تعبران عن معني الآية الخارقة للعادة و العرف أوضح تعبير:

أولاهما رواها محمد بن الفرج الذي قال:

«قال علي بن محمد عليهماالسلام: اذا أردت أن تسأل مسألة فاكتبها وضع الكتاب تحت مصلاك و دعه ساعة، ثم أخرجه و انظر.

ففعلت، فوجدت جواب ما سألته عنه موقعا فيه» [7] .

و هذه من العجائب حقا!. و لا تحدث بحسب العادة و المألوف، و لا تكون حتي بالسحر... اذ كيف انتقلت المسألة من تحت المصلي فاطلع عليها الامام عليه السلام و أجاب عنها و وقع الجواب، ثم أعيدت الي مكانها؟!.

انها آية تتحدي المألوف... و تضرب العرف و العادة... و هي معجزة تكشف عن سر مكنون عند أمين الله في أرضه!. و لو استطعنا تفسيرها و تحليلها لبطل كونها خارقة يعجز غير الامام عن الاتيان بها، لأن الامام - وحده - يعمل بين يديه ملائكة مسخرون لأمره، بأمر ربه عزوجل...

و الثانية أعجب و أكثر غرابة. و هي ما راه السيد ابن طاووس في كشف المحجة باسناده، من كتاب الرسائل للكليني عمن سماه، قال:

«كتبت الي أبي الحسن عليه السلام: ان الرجل يحب أن يفضي الي امامه ما يحب أن يفضي الي ربه.



[ صفحه 225]



قال: فكتب: ان كان لك حاجة فحرك شفتيك، فان الجواب يأتيك» [8] .

فهل استغربتها و عجبت مثل عجبي منها؟. اذن هي معجزة لا تصدر الا عن امام... و لا تقع الا مع ولي مخلص امتحن الله تعالي قلبه بالايمان. و هي و التي سبقتها دلالتان علي امامة الامام و حجيته بين عباد الله. و لو كانتا غير عجيبتين لفقدتا قيمتهما و لكان الآتي بهما انسانا عاديا... و ليس اماما... و مثلهما آيات نوح، و ابراهم، و موسي، و عيسي، و محمد صلوات الله عليهم، فانها كانت خوارق للعادة... عجيبة، مدهشة... صدرت باذن الله و بتقديره و تدبيره... و عن حكمته.

و آيتا الامام اللتان ذكر ناهما، هما - بحد ذاتهما - أسهل استساغة من سفينة نوح و طوفانه، و نار النمرود التي زج فيها نبي الله ابراهيم، و عصا موسي، و احياء عيسي للموتي، و معاجز محمد الذي سبح الحصي بيده و نبع الماء من بين أصابعه الشريفة، و كلمه الطير و الوحش!.

فاذا أردت أن تسمع عجيبا و غريبا يقول عنه المافقون: سحر و تخييل، و هو بالحقيقة من منح الرب الجليل، فامح من قلبك النكتة السوداء، و نظف نفسك من أدران رواسب الجاهلية العمياء، و استقبل آيات هذا الامام الكريم علي الله سبحانه بقلب نقي و نفس صافية، و استمع الي ما ذكره أبوجعفر، محمد بن جرير الطبري الذي قال:

«حدثنا سفيان عن أبيه، قال: رأيت علي بن محمد و معه جراب ليس فيه شي ء. فقلت أتراك ما تصنع بهذا؟.



[ صفحه 226]



فقال: أدخل يدك.

فأدخلت يدي، و ليس فيه شي ء.

ثم قال لي: عد.

فعدت فاذا هو مملوء دنانير!.» [9] .

ما أشبهها بلعبة «الكلاكلا» و السحر و الشعوذة... لو لا أنها حقيقة لا تخييل فيها و لا تضليل... فالجراب مملوء بالدنانير واقعا... و لو كنت حاضرها لنالك من الدنانير نصيب... و قد مررت بنظائر لها من معاجز امامنا عليه السلام، و ستمر بكثير من أمثالها.

فكيف امتلأ ذلك الجراب بالدنانير، لو لا القدرة الخفية التي تفيض الوجود من كتم العدم بمشيئة الرب القدير؟!. ان تلك القدرة الهائلة لم يعجزها ايجاد الكائنات بأنواعها، مع خصائصها، و أحجامها، و أبعادها، و أنظمتها الأزلية التي تمسك السماء أن تقع علي الأرض... و تنير الشمس فلا يطفئها طول الزمان... و تحمل الكواكب في الأفق اللامتناهي فلا تضطرب و لا تتناثر و لا تحول و لا تزول!!! و لا تعجز عن ايجاد دنانير، تملأ الجراب الصغير... و لا هي عجزت عن خلق ناقة صالح عليه السلام من بطن الصخرة الصماء: و براء، عشراء، ذات حياة و رغاء... و احداث آيات مذهلات...

و مثلها ما ذكره الطبري عن عمارة بن يزيد الذي قال:

قلت لعلي بن محمد بن الرضا: هل تستطيع أن تخرج من هذه الأسطوانة رمانة؟.

قال: نعم، و تمرا، و عنبا، و موزا.



[ صفحه 227]



ففعل ذلك، و أكلنا و حملنا [10] .

و لو كان غير حقيقي - كالسحر و الشعوذة - لما أكلوا، و لما حملوا...

و هذه الآيات يقف الفكر أمامها حائرا، و يحرن العقل تجاهها و مزورا، فلا تدخل اليه الا بعسر شديد... لأنه لا يستطيع فلسفة الآية التي تقلب العصا حية تلقف حبال سحرة فرعون، و تجعل نار النمرود بردا و سلاما علي ابراهيم، و تنقل عرش ملكة سبأ من اليمن الي القدس بأقل من طرفة عين!.

أجل، انها معاجز يعنو أمام تحليلها الفكر، و لا يؤمن بها الا من قد آمن بربه ربا قادرا لا يعجزه شي ء، و بالملائكة و الرسل و الكتب... و لا يأتي بها الا نبي، أو وصي باذن ربه و قدرته الفائقة... و هي لا تقع بدون مناسبة هامة يترتب عليها أثر هام، لأن الامام لا يجمع الناس في الساحات ليتفرجوا علي آياته و بيناته، و لا من شأنه عرض ذلك كما يفعل السحرة و المشعوذون.

و قال محمد بن يزيد: «كنت عند علي بن محمد عليه السلام، ولاذ به قوم يشكون الجوع. فضرب يده الي الأرض، و كان لهم برا و دقيقا» [11] .

فبوركت يد تجعل التراب مرة برا، و أخري دقيقا، و تحيل الرمل ذهبان مرة ثالثة باذن بها!. و انها ليد مباركة تحركها ارادة الرحمان، فتفعل بقدرته ما يبهر الانسان، و يدفع البهتان، و يدع العقل يعمل بالسرعة الكهربا - الكترونية ليقف في مصاف المؤمنين المصدقين، أو في عداد المنافقين الذين تأخذهم العزة بالاثم... فالانسان أمام هذه الظواهر المدهشة اما أن



[ صفحه 228]



يتهضمها بايمان... و اما أن يصعر خده عنها بكبر و بنفثة شيطان... و لا حال بين الحالين... و نحن ننقلها الي الأخوة الأحبة من القراء بأمانة، ليتفكروا و يتدبروا و يختاروا التصديق أو التكذيب.

و ذكر القطب الراوندي أن جماعة من أهل أصفهان - منهم أبوالعباس، أحمد بن النضر، و أبوجعفر، محمد بن علوية - قالوا:

«كان بأصفهان رجل يقال له عبدالرحمان، و كان شيعيا. فقيل له: ما السبب الذي أوجب عليك القول بامامة علي النقي دون غيره من أهل الزمان؟.

فقال: شاهدت ما أوجب علي ذلك. و ذلك أني كنت رجلا فقيرا و كان لي لسان و جرأة، فأخرجني أهل أصفهان سنة من السنين مع قوم آخرين فجئنا الي باب المتوكل متظلمين.

و كنا بباب المتوكل يوما اذ خرج الأمر باحضار علي بن محمد الرضا عليه السلام. فقلت لبعض من حضر: من هذا الرجل الذي قد أمر باحضاره»؟.

فقيل: هذا رجل علوي تقول الرافضة بامامته. ثم قيل: و نقدر أن المتوكل يحضره للقتل.

فقلت: لا أبرح من ها هنا حتي أنظر الي هذا الرجل أي رجل هو.

فأقبل راكبا علي فرس و قد قام الناس صفين يمنة الطريق و يسرتها ينظرون اليه.

فلما رأيته وقفت فأبصرته، فوقع حبه في قلبي، فجعلت أدعو له في نفسي بأن يدفع الله عنه شر المتوكل.

فأقبل بيسير بين الناس و هو ينظر الي عرف دابته لا يلتفت يمنة و لا



[ صفحه 229]



يسرة، و أنا أكرر في نفسي الدعاء له... فلما صار بازائي أقبل بوجهه علي و قال: قد استجاب الله دعاءك، و طول عمرك، و كثر مالك و ولدك.

قال: فارتعدت من هيبته، و وقعت بين أصحابي...

فسألوني: ما شأنك؟.

قلت: خير... و لم أخبرهم بذلك.

فانصرفنا بعد ذلك الي أصفهان، ففتح الله علي وجوها من المال حتي أني اليوم أغلق بابي علي ما قيمته ألف ألف درهم سوي مالي خارج داري!. و رزقت عشرة من الأولاد، و قد بلغت الآن من عمري نيفا و سبعين سنة، و أنا أقول بامامة هذا الرجل الذي علم ما في قلبي، و استجاب الله دعاءه في ولي» [12] .

و نأسف أن عبدالرحمان هذا، قد مات برغم طول عمره، و ليس في يدنا و لا في مقدورنا أن نسأله عن كيفية تأثير كلام الامام عليه السلام في نفسه لدرجة بلغ معها مبلغا ارتعدت منه فرائصه و وقع علي وجهه مغشيا عليه بين أصحابه!. ولكننا نقف ذاهلين أمام علم الامام الذي نفذ الي ضمير عبدالرحمان فاطلع علي ما في نفسه، و قرأ غيرته عليه، و وقوع حبه في قلبه، و دعاءه له خفية عن غيره!.

و في كل حال لا ينقضي عجبنا من انكشاف سريرة «واحد» يقف بين «آلاف المتفرجين» علي يمين الشارع العام و يساره، و هم جميعا يختلسون النظر الي «رجل» أمر الخليفة باحضاره لقتله... و لا يمنعنا من التساؤل:



[ صفحه 230]



كيف سمع الامام وسوسة صدر عبدالرحمان و ما دار في خاطره و ما حدثته به نفسه؟!. و كيف وعي ما يجول في فكره من دعاء و تمنيات!.

ثم ما هذه الثقة بالله عند الامام الذي يقول لرجل لا يعرفه و لا رآه سابقا، و لا سمع له قولا: استجاب الله دعاءك، و طول عمرك، و كثر مالك و ولدك؟!.

ان كل التساؤلات التي تخطر في البال حول مآتي الامام، تنمحي و لا تدور في فكر من كان في قلبه ايمان... و يحل محلها تقديس الله و تسبيحه و الاقرار بعظمته و قدرته... و يريح الانسان من الضياع و السير في الفراغ...

قال أبوالحسن، محمد بن اسماعيل بن أحمد القهقلي، الكاتب بسر من رأي سنة ثمان و ثلاثين و ثلاثمئة - و مئتين -:

«حدثني أبي، قال: «كنت بسر من رأي أسير في درب الحصي، فرأيت «يزداد» الطبيب النصراني، تلميذ بختيشوع، و هو منصرف من دار موسي بغا، فسايرني و أفضي الحديث الي أن قال لي: أتري هذا الجدار... تدري من صاحبه؟.

قلت: و من صاحبه؟.

قال: هذا الفتي العلوي الحجازي - يعني علي بن محمد بن الرضا عليهم السلام - و كنا نسير في فناء داره.

قلت ليزاداد: نعم، فما شأنه؟

قال: ان كان مخلوق يعلم الغيب!

قلت: فكيف ذلك؟!

قال: أخبرك عنه بأعجوبة لن تسمع بمثلها أبدا و لا غيرك من الناس!. ولكن لي الله عليك كفيل وراع أن لا تحدث بها أحدا، فاني رجل طبيب ولي



[ صفحه 231]



معيشة أرعاها عند السلطان، و بلغني أن الخليفة استقدمه من الحجاز فرقا منه لئلا ينصرف اليه وجوه الناس، فيخرج هذا الأمر عنهم - يعني عن بني العباس -.

قلت: علي ذلك، فحدثني به و ليس عليك بأس. انما أنت رجل نصراني لا يتهمك أحد فيما تحدث به عن هؤلاء القوم.

قال: نعم، أعلمك... اني لقيته منذ أيام و هو علي فرس أدهم، و عليه ثياب سود، و عمامة سوداء، و هو أسود اللون. فلما بصرت به وقفت اعظاما له و قلت في نفسي - لا و حق المسيح ما خرجت من فمي الي أحد من الناس - قلت في نفسي: ثياب سوداء، و دابة سوداء، و رجل أسود؟!!

فلما بلغ الي نظر الي و أحد النظر و قال: قلبك أسود مما تري عيناك من سواد في سواد في سواد.

قال أبي رحمه الله (للطبيب): فقلت له: أجل فلا تحدث به أحدا. فما صنعت، و ما قلت؟!.

قال - أي الطبيب -: أسقط في يدي، فلم أحر جوابا.

قلت له: فما أبيض قلبك لما شاهدت؟!.

قال: الله أعلم.

قال أبي: فلما اعتل «يزداد» بعث الي فحضرت عنده، فقال: ان قلبي قد ابيض بعد سواده، فأنا أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و أن علي بن محمد حجة الله علي خلقه، و ناموسه الأعظم. ثم مات في مرضه ذلك، و حضرت الصلاة علي رحمه الله» [13] .



[ صفحه 232]



و قبل أن نقف مع قصة «يزداد» نورد للقاري ء قصة أخري ذكرها هبة الله بن أبي منصور الموصلي الذي قال:

«كان بديار ربيعة كاتب لها نصراني، و كان من «كفرتوثا» - القرية الكبيرة الواقعة بين دجلة و الفرات - يسمي يوسف بن يعقوب. و كان بينه و بين والدي صداقة، فوافانا فقال له والدي: فيم قدمت في هذا الوقت؟.

قال: دعيت الي حضرة المتوكل، و لا أدري ما يراد مني. الا أني اشتريت نفسي من الله بمئة دينار، و قد حملتها لعلي بن محمد الرضا عليهماالسلام معي.

فقال له والدي: قد وفقت في هذا.

قال: و خرج الي حضرة المتوكل، و جاءنا بعد أيام قلائل فرحا مسرورا مستبشرا.

فقال له والدي: حدثني حديثك.

قال: صرت الي سر من رأي و ما دخلتها قط - أي أنه لم يدخلها قبلئذ - فنزلت في دار و قلت: يجب أن أوصل هذه المئة دينار الي ابن الرضا قبل مصيري الي باب المتوكل، و قبل أن يعرف أحد قدومي.

و عرفت أن المتوكل قد منعه من الركوب و أنه ملازم داره - أي بالاقامة الجبرية - فقلت: كيف أصنع؟!. رجل نصراني يسأل عن ابن الرضا!، لا آمن أن ينذر بي، فيكون ذلك زيادة في ما أحاذره.

قال: ففكرت ساعة في ذلك، فوقع في قلبي أن أركب حماري و أخرج في البلد، فلا أمنعه حيث يذهب، لعلي أقف علي معرفة داره من غير أن أسأل أحدا... فجعلت الدنانير في كاغد- ورقة، أو كيس من ورق - و جعلتها في كمي و ركبت. و كان الحمار يتخرق في الشوارع و الأسواق يمر حيث يشاء، الي أن صرت الي باب دار، فوقف الحمار... فجهدت أن يزول فلم



[ صفحه 233]



يزل!. فقلت للغلام: سل لمن هذه الدار؟، فقيل: دار ابن الرضا عليه السلام... فقلت: الله أكبر!. دلالة و الله مقنعة.

قال: فاذا خادم أسود قد خرج فقال: أنت يوسف بن يعقوب؟.

قلت: نعم.

قال: فانزل... فنزلت فاقعدني في الدهليز و دخل. فقلت في نفسي: هذه دلالة أخري. من أين عرف هذا الغلام اسمي و اسم أبي و ليس في البلد من يعرفني و لا دخلته قط؟!!

فخرج الخادم فقال: المئة دينار التي في كمك في الكاغد، هاتها.

فناولته اياها؛ و قلت: هذه ثالثة.

ثم رجع فقال: ادخل...

فدخلت و هو في مجلسه وحده، فقال: يا يوسف ما آن لك؟! - أي ما آن أن تسلم بعده هذه الدلائل الغيبية العجيبة -.

فقلت: يا مولاي قد بان لي من البرهان ما فيه كفاية لمن اكتفي.

فقال: هيهات، انك لا تسلم؛ ولكن سيسلم ولدك فلان و هو من شيعتنا. يا يوسف، ان أقواما يزعمون أن ولايتنا لا تنفع أمثالكم، كذبوا و الله، انها لتنفع أمثالك. امض فيها وافيت له فانك ستري ما تحب. و سيولد لك ولد مبارك.

قال: فمضيت الي باب المتوكل فنلت كل ما أردت، و انصرفت.

قال هبة الله: فلقيت ابنه بعد هذا و هو مسلم حسن التشيع، فأخبرني أن أباه مات علي النصرانية، و أنه أسلم بعد موت أبيه، و كان يقول: أنا مؤمن ببشارة مولاي عليه السلام» [14] .



[ صفحه 234]



و العجيب في هذه القصة أن الحمار اهتدي للدار من دون دليل... و راكب الحمار - يوسف بن يعقوب - لم يهتد الي الحق مع دلالات ثلاث قوية البرهان لمسها بنفسه وعدها واحدة بعد واحدة!.

و الأعجب في أمره أنه اشتري نفسه من الهلاك الذي كان ينتظره بمئة دينار نذرها للامام عليه السلام ان نجاه الله تعالي من يدي الخليفة الذي أرسل بطلبه. و أنه لم ينشي ء النذر الا عن ايمان بأن المنذور له ذو دعاء مستجاب و صاحب كرامات عند رب الأرباب، و أنه حار في أمر ايصال النذر اليه لجهله بمنزله فدله الحمار علي المنزل، ثم لما حزن الحمار أمام باب الدار نودي باسمه و باسم أبيه من غلام أسود لا يعرفه، و أنه طلبت منه المئة دينار قبل أن يعرف بها أحد غير الله جل و علا... و أنه خوطب باسمه من قبل الامام عليه السلام، و عوتب علي عدم اقتناعه بالبراهين السابقة و عدم اظهار التسليم و الاسلام... و أنه - بالأخير - اعترف بكفاية البراهين و الدلائل لمن أراد أن يكتفي - أقول: و الأعجب في أمره أنه لم يسلم، و لم يؤمن!!!

ولكن هذا العجب ينتهي بعد أن ينفتح الباب عما هو أعجب منه و أعظم، و هو قول الامام عليه السلام له: هيهات، انك لا تسلم!. ثم يبشره بمولود مبارك يكون من شيعته!.

فلا عتب علي بن كان دليله حمارا... اذا بقي علي جهله!. لأن من كان دليله عقله - كيزداد، الطبيب - آمن و صدق و أيقن... و كان من الفائزين.

و مرحي لك يا «يزداد» اذا جعل الله تعالي خير أيامك ما ولي آخر عمرك، و كان أفضل أيام حياتك خواتيمها، حيث ختم لك بخير لأن الاسلام يجب ما قبله. فستبعث بريئا نظيفا كيوم ولدتك أمك... و قد أبيض قلبك



[ صفحه 235]



الأسود قبل فراق هذه الدنيا الزائلة الي الآخرة الباقية الخالدة... فما أحسن ما استهليت به أول يوم من أيام آخرتك... و كان الحق معك حين طلبت من صاحبك أن يكتم أمرك لأن سلطان زمانك كان يستل لسانك من فمك ان هو سمع ما فهت به يومذاك... و اذ أهنئك بنهايتك السعيدة، لا آسي علي أولئك السلاطين المترببين علي الناس، فقد أعماهم التسلط علي رقاب العباد، و أطغاهم امهال الله تعالي لهم، فعاثوا في الأرض فسادا و انصب همهم و اهتمامهم علي عداوة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و كيده في عترته الطاهرة... ثم لم يفرغوا من ذلك الي شي ء غيره...

فكيف يقابل وجه الله أولئك السلاطين... حين تنصب الموازين؟!.

و كيف يلاقون رسوله الكريم و أيديهم ملطخة بدماء ذريته و أهل بيته؟!!

و عن محمد بن داود القمي، و محمد بن طلحة، قالا: «حملنا مالا من خمس و نذر و هدايا و جواهر اجتمعت في تم و بلادها، و خرجنا نريد بها أبا الحسن الهادي عليه السلام، فحاءنا رسوله في الطريق أن ارجعوا فليس هذا وقت الوصول... فرجعنا الي قم و أحرزنا ما كان عندنا.

فجاءنا أمره بعد أيام أن قد أنفذنا اليكم ابلا وعيرا فاحملوا عليها ما عندكم و خلوا سبيلها.

قالا: فحملناها و أوردعناها الله...

فلما كان من قابل قدمنا عليه، فقال: انظروا الي ما حملتم الينا.

فنظرنا فاذا المنايح كما هي» [15] - و المنايح هي الهدايا و العطايا-.



[ صفحه 236]



هذه العير و الابل سارت وحدها ما بين قم- في ايران - و سامراء - في العراق - و علي ظهورها الأموال و الجواهر والثياب... فمن كان دليلها و حاديها و حارسها عبر ذلك السفر الطويل؟!!

و من جنبها الوقوع في قبضة جلاوزة السلطان، و أوصلها الي مكان قصدها بأمان؟!!

و لماذا أتي الامام عليه السلام بهذه الآية بين طرفي دولة بني العباس شرقا و غربا؟!.

انه سلام الله عليه و تحياته و بركاته، قد تعمدها لتتحدث بها الركبان... و ليغطي ذكرها آفاق دولة السلطان، فتكون آية بينة تتناقل من شفة الي لسان، فشفة فلسان... حتي تصلنا في أيامنا هذه فيقوي بها ايمان الولي، و تكون قذي في عين عدور رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و عدو ذريته...

و قال الفحام: «حدثني المنصوري عن عم أبيه، و حدثني عمي، عن كافور الخادم الذي قال:

«كان في الموضع مجاور الامام من أهل الصنايع صنوف من الناس، و كان الموضع كالقرية. و كان يونس النقاش يغشي سيدنا الامام عليه السلام و يخدمه.

فجاءه يوما يرعد، فقال: يا سيدي أوصيك بأهلي خيرا.

قال: و ما الخبر؟.

قال: عزمت علي الرحيل.

قال: و لم يا يونس؟. و هو عليه السلام متبسم.

قال: موسي بن بغا وجه الي بفص ليس له قيمة - أي أنه ثمين لا تقدر



[ صفحه 237]



قيمته - أقبلت أن أنقشه فكسرته باثنين، و موعده غدا... و هو موسي بن بغا، أما ألف سوط، و اما القتل!.

قال: امض الي منزلك الي غد، فما تري الا خيرا.

قال: و ما أقول له يا سيدي؟!.

قال: فتبسم و قال: امض اليه و اسمع ما يخبرك به، فلن يكن الا خيرا.

قال: فمضي، و عاد يضحك، و قال. قال لي يا سيدي: الجواري اختصمن، فيمكنك أن تجعله فصين حتي نغنيك.

فقال سيدنا الامام عليه السلام: اللهم لك الحمد اذ جعلتنا ممن يحمدك حقا، فأيش قلت له؟. و هي لغة تعني: أي شي ء؟ -.

قال: قلت له: أمهلني حتي أتأمل أمره كيف أعمله.

فقال: أصبت» [16] .

«فبأيش» نعلق علي هذا الغيب من غيبك يا رب؟!. و هل نملك أكثر من القول بأن الامام عليه السلام علم بما يكون في اختلاف الجواري بشأن ذلك الحجر الكريم، و الاتفاق علي جعله نصفين؟!. و اذا قلنا ذلك، ورد السؤال: من أين له علم ذلك... و ورد سؤال بعد سؤال، و اشكال بعد اشكال... اننا اذا أردنا التعليق وجب أن يكون تعليقنا كفاء علم الامام عليه السلام... و من أين لنا ذلك و نحن أطفال كلام في معايير التحليل و التعليق!!!

انه لا يغلب الناس الا من يقول: أعطاني ربي... و الأئمة عليهم السلام



[ صفحه 238]



أعطاهم ربهم عزوعلا، و أنالهم و أنال، حتي يعيا المكيال و ينقطع النفس...

قال أحمد بن يحيي الأودي:

«دخلت مسجد الجامع لأصلي الظهر. فلما صليت رأيت حرب بن الحسن الطحان و جماعة من أصحابنا جلوسا، فملت اليهم فسلمت عليهم و جلست. و كان فيهم الحسن بن سماعة - من شيوخ الواقفة -. فذكروا الحسن بن علي عليهماالسلام و ما جري عليه، ثم من بعد زيد بن علي و ما جري عليه، و معنا رجل لا نعرفه، فقال:

يا قوم: عندنا رجل علوي بسر من رأي من أهل المدينة ما هو الا ساحر أو كاهن.

فقال له ابن سماعة: يمن يعرف؟.

قال: علي بن محمد بن الرضا.

فقال له الجماعة: فكيف تبينت ذلك منه؟.

قال: كنا جلوسا معه علي باب داره، و هو جارنا بسر من رأي نجلس اليه كل عشية نتحدث معه، اذ مر بنا قائد من دار السلطان و معه خلع و معه جمع كثير من القواد و الرجالة و الشاكرية - أي الأجراء و المستخدمين - و غيرهم، فلما رآه علي بن محمد وثب اليه و سلم عليه و أكرمه.

فلما أن مضي قال لنا: هو فرح بما هو فيه، و غدا يدفن قبل الصلاة!.

فعجبنا من ذلك، فقمنا من عنده فقلنا: هذا علم الغيب!. فتعاهدنا ثلاثة ان لم يكن ما قال أن نقتله و نستريح منه.

فاني في منزلي و قد صليت الفجر اذ سمعت جلبة فقمت الي الباب فاذا خلق كثير من الجند و غيرهم، و هم يقولون: مات فلان القائد البارحة. سكر و عبر من موضع الي موضع فوقع و اندقت عنقه!.



[ صفحه 239]



فقلت: أشهد ان لا اله الا الله، و خرجت أحضره و اذا الرجل - كان كما قال أبوالحسن - ميت؛ فما برحت حتي دفنته و رجعت!. فتعجبنا جميعا من هذا الحال» [17] .

فلا تغلط أيها الضيف السامرائي في تفسير آيات الله و دلائل عظمته!. و لا تخلط بين الآيات و بين السحر و الشعوذة! فليس الرجل الذي رأيته ساحرا و لا كاهنا كما زعمت، ولكنه عالم أهل بيت البنوة صلوات الله عليهم، و هو لا يرجم بالغيب، بل ينطق عن علم ثابت محفوظ في صدره استقاه عن آبائه عن جده صلي الله عليه و آله و سلم عن جبرائيل عليه السلام عن الله تبارك و تعالي... و تعاهدك مع رفيقيك علي قتل الامام اذا لم يقع ما وعد به للاستراحة منه، تعاهد سفيه أريحك من الوفاء به لأنه تعاهد كفر و نفاق كتعاهد كفار قريش و رؤوس الضلال من أكابر مكة حين تواطأوا علي قتل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. فان ما يقوله الامام لابد أن يقع اذ هو من المحتوم الذي أطلعه عليه الحي القيوم!. و لذا فان اجلاب الجند و ضجيجهم قد طرق سمعك مع صلاة الفجر ليؤذنك بصدق الامام عليه السلام، و بموت القائد الفرح المرح... فاهمس في أذني رفيقيك أنك و اياهما كنتم في ضلال عن الحق كأكثر المعاصرين لكم اذ استحوذ عليهم الشيطان و أنساهم أنهم علي دين نبي عظيم لم يعملوا بما أمر و لم ينتهوا عما نهي عنه و زجر، بل وجدوا آباءهم علي طريق ضلال فسلكوه، و خالفوا أوامر ربهم و نواهيه، و ما أغنت عنهم الآيات و لا النذر... فأدي بهم غرورهم الي مصير و بيل، بعد أن رضوا بالعيش - صرفا - بين المعتلف و النثيل!.



[ صفحه 240]



و عن الحسن بن اسماعيل، عن شيخ من أهل النهرين، قال:

«خرجت أنا و رجل من أهل قريتي الي أبي الحسن بشي ء كان معنا، و كان بعض أهل القرية قد حملنا رسالة و دفع الينا ما أوصلناه و قال: تقرئونه مني السلام و تسألونه عن بيض الطائر الفلاني من طيور الآجام هل يجوز أكله أم لا؟.

فسلمنا ما كان معنا الي جارية، و أتاه رسول السلطان فنهض ليركب، و خرجنا من عنده و لم نسأله عن شي ء... فلما صرنا في الشارع لحقنا عليه السلام و قال لرفيقي بالنبطية: أقرئه مني السلام و قل له: بيض الطائر الفلاني لا تأكله فانه من المسوخ» [18] .

فمن أين له باللغة النبطية و من علمه اياها؟. و لم اختار التكلم بها؟!. و هل كان علي امامنا عليه السلام أن يخاطب أهل عصره باللغة «النبطية» حتي يسمعوا و يعوا؟!! لا، أبدا،. و لقد استعمل معهم كل وسيلة، و سلك كل طريقة يمكن أن تؤدي الي الهدي للولاية الربانية، فما ازدادوا الا بعدا و ضلالا و تمسكا بما ورثوه عن أجدادهم و آبائهم من التنكر للحق، و ما زادهم دعاؤه لهم الا فرارا، ركضا وراء شهوات الدنيا و لذائذ العيش التي حرمتهم من ايمان ما كان ليحرم عليهم شهوة محللة، و لا لذة مباحة مسوغة!.

فيا ليتهم كانوا يسمعون، و يعقلون... لينزعوا من عقولهم الصدئة أن الامام واحد عادي كسائرهم، أو انما كان أفقه و أحسن أخلاقا منهم... فقط!. جاهلين مرتبته الربانية، و سره الالهي و أن قوله منزل من المنزل و ليسوا بمخيرين بين قبوله أو رفضه، و لا صدقه موقوف علي اعترافهم التافه



[ صفحه 241]



الذي لا يحتاج اليه ظهور حقه و صدقه.

و الآن انظر الي ما أصاب محمدا بن عبدالله القمي - الشيعي - من مكروه حين خالف أمر مولاه مخالفة جزئية لا تمس جوهر العمل الديني بمعناه الأصيل، بالرغم من أنه قد تجشم و عثاء السفر فيما بين ايران و العراق ليتشرف برؤية امامه صلوات الله عليه و الاجتماع بخدمته... فقد قال ذلك المسكين:

«لما حملت ألطافا من قم الي سيدي أبي الحسن عليه السلام، الي سر من رأي، وصلتها و استأجرت بها منزلا، و جلعت أروم الوصول اليه و من يوصل تلك اللطائف التي حملتها، فتعذر علي ذلك.

فكلفت عجوزا كانت معي في الدار أن تلتمس لي امرأة أتمتع بها.

فخرجت العجوز في طلب حاجتي، فاذا أنا بطارق قد طرق بابي و قرعه. فخرجت اليه فاذا أنا بصبي منحول؛ فقلت له: ما حاجتك؟.

فقال لي: سيدي و مولاي يقول لك: قد شكرنا برك و ألطافك التي حملتها تريدنا بها. فاخرج الي بلدك و أردد ألطافك معك. و احذر الحذر كله أن تقيم بسر من رأي أكثر من ساعة؟. فانك ان خالفت و أقتم عوقبت... فانظر لنفسك!.

فقلت: و الله اني أخرج و لا أقيم.

فجاءت العجوز و معها المتيعة... فمتعت بها، و بت ليلتي و قلت: أخرج غدا.

فلما تولي الليل طرق باب دارنا ناس و قرعوه قرعا شديدا. فخرجت العجوز اليهم، فاذا، أنا بالطائف و الحارس و شرطة معهما، و مشعل و شمع



[ صفحه 242]



فقالوا لها: أخرجي الينا الرجل و المرأة من دارك!. فجحدتهم... فهجموا علي الدار فأخذوني و المرأة و نهبوا كل ما كان معي من اللطائف و غيرها... فرفقت - أي شد عضداه بحبل - و أقمت في الحبس بسر من رأي ستة أشهر.

... ثم جاءني بعض مواليه فقال لي: حلت بك العقوبة التي حذرتك منها. فاليوم تخرج من حبسك، فصر الي بلدك!.

فأخرجت في ذلك اليوم، و خرجت هائما حتي وردت قم فقلت اني بخلافي لأمره نالتني تلك العقوبة» [19] .

فقد رجع المسكين خائبا لم يتشرف برؤية سيده و مولاه رغم أنه قطع المسافات الشاسعة الشاقة، و ما أوصل له ألطافا و لا قضي من مآربه غير وطر المتعة التي قضت عليه بالانتشال من حضن المتيعة و الالقاء في غياهب السجن ستة أشهر حين لم ينفذ أمر امامه الذي محضه النصح فلم ينتصح... وثق أننا لا تتسني لنا معرفة الامام حقا و حقيقة الا حين نعتقد اعتقادا جازما لا يخامره ريب أنه حجة الله تعالي علي العباد و سفيره في البلاد، فلا يخفي سبحانه عنه شيئا مما قدر و أراد... و الا فاننا نضيع عنه مع الضائعين، و نظنه واحدا كسائر العالمين، و نبوء باثم تكذيب ما جاء به رسولنا العظيم صلي الله عليه و آله و سلم عن ربه عزوجل بخصوص عترته الطاهرة الفاخرة صلوات الله و سلامه عليهم.

و قال الحسين بن علي: انه أتي النقي (عليه السلام) رجل خائف و هو يرتعد و يقول: ان ابني أخذ بمحبتكم، و الليلة يرمونه من موضع كذا و يدفنونه تحته!.

قال: فما تريد؟.



[ صفحه 243]



قال: ما يريد الأبوان.

فقال: لا بأس عليه، اذهب فان ابنك يأتيك غدا.

فلما أصبح أتاه ابنه، فقال: يا بني ما شأنك؟.

قال: لما حفروا القبر و شدوا الي الأيدي، أتاني عشرة أنفس مطهرة معطرة و سألوا عن بكائي، فذكرت لهم:

فقالوا: لو جعل الطالب مطلوبا؛ تجرد نفسك و تخرج و تلزم تربة النبي صلي الله عليه و آله و سلم؟.

قلت: نعم.

فأخذوا الحاجب فرموه من شاهق الجبل و لم يسمع أحد جزعه و لا رأوا الرجال!. و أوردوني اليك و هم ينتظرون خروجي اليهم. و ودع أباه و ذهب...

فجاء أبوه الي الامام و أخبره بحاله. فكان الغوغاء تذهب و تقول: وقع كذا و كذا، و الامام عليه السلام يبتسم و يقول: انهم لا يعلمون ما نعلم!» [20] .

أي و الله، و نعم، و بلي... فان الغوغاء - و هم سفلة الناس و المتسرعون الي الشر - هم أبعد ما يكون عن علم ما تعلم يا سيدي يا أباالحسن!. بل أنت في المنظر الأعلي و هم أقصي ما يكون عن فهم علمك و معرفة قدرك!، بل ان العلماء و العقلاء يقصرون عن ذلك و لا يدركون الا جزءا يسيرا مما حباك به ربك سبحانه حين انتجبك لسياسة خلقه... فعلمك من علم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، من علم الله تعالي علام الغيوب الذي يسمع النجوي



[ صفحه 244]



و يطلع علي السر و أخفي، و لا يفوته ما توسوس به النفوس، و لا ما تجيش به الصدور و (و ما يخفي علي الله من شي ء في الأرض و لا في السماء (38))... [21] فكيف يصل هذا الخلق القاصر الي معرفة ما أنت عليه من القدرة و التمكن و قد اختصك الله عزوجل بما اختص به أنبياءه السابقين و سخر لك الملائكة يعملون بين يديك باذنه لتتم بك حجته علي الناس؟!.

لا و الله انهم لا يعلمون ما تعلم... و لا كانوا يريدون أن يعلموا... بل ركبوا العناد و خانهم السداد.

و قد روي الفحام عن عمه عمر بن يحيي، عن كافور الخادم، قال:

«قال لي الامام علي بن محمد عليه السلام: اترك لي السطل الفلاني في الموضع الفلاني لأتطهر منه للصلاة، و أنفذني في حاجة و قال: اذا عدت فافعل ذلك ليكون معدا اذا تأهبت للصلاة.

و استلقي عليه السلام لينام، و نسيت ما قال لي، و كانت ليلة باردة... فأحسست به و قد قام الي الصلاة و ذكرت أنني لم أترك السطل!. فبعدت عن الموضع خوفا من لومه، و تألمت له حيث يشقي بطلب الاناء...

فناداني نداء مغضب، فقلت: انا الله!. أيش - أي شي ء - عذري أن أقول نسيت مثل هذا؟!.

و لم أجد بدا من اجابته، فجئت مرعوبا، فقال: يا ويلك، أما عرفت رسمي أنني لا أتطهر الا بماء، بارد فسخنت لي ماء فتركته في السطل؟!.

فقلت: و الله يا سيدي ما تركت السطل و لا الماء.



[ صفحه 245]



قال: الحمد لله. و الله لا تركنا رخصة، و لا رددنا منحة... الحمد لله الذي جعلنا من أهل طاعته، و وفقنا للعون علي عبادته... ان النبي صلي الله عليه و آله و سلم يقول: ان الله يغضب علي من لا يقبل رخصته» [22] .

أفأنت يا قارئي العزيز سخنت له الماء ليتطهر في تلك الليلة الباردة؟!. لا، و لا أنا، و لا كافور الخادم...

و اذا... (أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين (99)) [23] بأن الامام يكون دائما في عين الله عزوعلا بعد أن انتجبه و حمله كلمته الي الناس. (فأبي أكثر الناس الا كفورا (89))؟!!. [24] .

و قال محمد بن علي: «أخبرني زيد بن علي بن الحسين بن زيد، قال:

«مرضت فدخل علي الطبيب ليلا و وصف لي دواء آخذ في السحر كذا و كذا يوما، فلم يمكني تحصيله من الليل.

و لم يخرج الطبيب من الباب، حتي ورد علي نصر، صاحب أبي الحسن عليه السلام في الحال بقارورة فيها ذلك الدواء بعينه، فقال لي: أبوالحسن عليه السلام يقرئك السلام و يقول لك: خذ هذا الدواء كذا و كذا يوما.

فأخذته، و شربته فبرئت» [25] .



[ صفحه 246]



فلم يمر الطبيب بالامام عليه السلام، و لا أخبره بمرض زيد المذكور، و لا بما وصف له من الدواء... و لا كان الامام يحوز صيدلية عقاقير مختلفة اختار من بينها العلاج الناجع لصاحبه!. فهل «علم» ذلك بغير قدرة الله التي ذل لها كل شي ء و خضغ لها كل شي ء؟!، لا... و قد أعلم الله سبحانه وليه بما كان... بل لم يحجب عنه علم ما يكون لأنه جعله عيبة علمه و مستودع سره، و الناطق بأمره... فهيا له المعرفة، و الحصول علي الدواء المقرر، بلطفه الخفي، و أقدره علي ما يعجز عنه الآخرون ليكشف لهم عن سره المكنون الذي هو من سره عزوجل... و لو لا ذلك لكان انسانا عاديا كما كان يظن أهل عصره و من تلاهم...

و قال أبوهاشم الجعفري:

«ظهر برجل من سر من رأس برص فتنغص عليه عيشه. فجلس يوما الي أبي علي الفهري فشكا اليه حاله، فقال له: لو تعرضت لأبي الحسن، علي بن محمد عليهماالسلام، فسألته أن يدعو لك، لرجوت أن يزول عنك.

فجلس له يوما في الطريق وقت منصرفه من دار المتوكل. فلما رآه قام اليه ليدنو منه فيسأله عن ذلك، فقال - عليه السلام -: تنح، عافاك الله - و أشار اليه بيده - تنح، عافاك الله، تنح عافاك الله!.

فابتعد الرجل و لم يجسر أن يدنو منه، و انصرف...

و لقي الفهري و عرفه الحال و ما قال... فقال: قد دعا لك قبل أن تسأله، فاذهب فانك ستعافي.



[ صفحه 247]



فذهب الرجل الي بيته، فبات تلك الليلة... و لما أصبح لم ير علي بدنه شيئا من ذلك» [26] .

و قبل أن يأخذك العجب تذكر معي: (اذ قال الله يا عيسي ابن مريم اذكر نعمتي عليك و علي والدتك اذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد و كهلا و اذ علمتك الكتاب و الحكمة و التوراة و الانجيل و اذ تخلق من الطين كهيئة الطير باذني فتنفخ فيها فتكون طيرا باذني و تبرئ الأكمه و الأبرص باذني و اذ تخرج الموتي و اذ كففت بني اسرائيل عنك اذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم ان هذا الا سحر مبين (110)...) [27] تذكر قوله هذا تر أن كل ذلك يتم باذن الله سبحانه و تعالي لا بقدرة مخلوق.

قلم يكلم عليسي عليه السلام الناس في المهد الا باذن ربه عزوجل، و لا خلق ما هو بهيئة الطير الا بمشيئته تعالي، و كذلك لم يبري ء الأكمه و لا شفي الأبرص الا باذن ربه القادر تبارك و تعالي... و اذنه هذا الذي منحه للمسيح عليه السلام، لم يبخل به و لا بأكثر منه علي رسوله محمد صلي الله عليه و آله و سلم، و لا بخل به علي أوصيائه الذين هم مواضع سره و ورثة أنبيائه و حملة وحيه، صلوات الله و سلامه عليهم... أما شكنا و توقفنا عند هذه النقاط من آثارهم فيدلان علي نقص في ايماننا، و انكار لشي ء موجود لا يجعله الانكار معدوما. بل هو في الواقع انكار لقدرة الله سبحانه، و اعتراض علي مشيئته، و عناد و تحد لارادته!.

فهل نحن شركاء له تعالي فيما قسم بين عباده بمقتضي حكمته و علمه حتي نقف بالمرصاد لكل ما يصدر عن أوليائه و أهل الزلفة لديه، فنبادر له



[ صفحه 248]



يأتون به من العجائب بالتكذيب و الاستنكار؟!. طبعا، لا... و لكنها وقاحة العبد القاصر الذي كلما عرض له ما لا يستوعبه عقله و فكره قال: هذا سحر مبين!.

فامامنا عليه السلام قد عرف بغية الرجل المصاب بالبرص منذ وقع نظره عليه في الطريق، فدعا له بالبرء قبل أن يطلب ذلك - و ربه سميع مجيب -؛ ثم أشار اليه بيده الكريمة قائلا: تنح، عافاك الله، بقصد الدعاء أو بقصد الاخبار انه قد حقت له العافية باذن الله بعد دعاء وليه الأمين... فأدرك ذلك صاحبه الفهري الذي قال للرجل بكامل الاطمئنان: اذهب فانك ستعافي... و قد صرنا علي بينة من أن الامام عليه السلام يعلم ما في النفوس، كما كان معاصروه علي بينة من ذلك و بقين و معرفة تامة بأنه يأتي بالآيات الباهرة و المعاجز المدهشة كلما لزم الأمر أو عاند المعاند و كاد المكايد.

و أسر من أذنك يا قارئي الكريم - للمرة الثانية أن هذه «البضاعة» لم تكن عند الأئمة عليهم السلام مطروحة في الشوارع و الأسواق، بل كانت مرصودة لوقت الحاجة و الحجة... و لفائدة الناس و انتشالهم من براثن الجهل المؤدي الي سخط الله تعالي و غضبه... فقط... لأن الأية المعجزة لا تقع بلا سبب هام.

قال محمد القاسم بن العلا:

«حدثنا خادم لعلي بن محمد عليه السلام، قال: «استأذنته في الزيارة الي طوس - أي للتشرف بزيارة قبر جده الامام الرضا عليه السلام - فقال لي:

يكون معك خاتم فصه عقيق أصفر عليه: ما شاء الله، لا قوة الا بالله، أستغفر الله. و علي الجانب الآخر: محمد و علي، فانه أمان من القطع، و أتم للسلامة، و أصون لدينك.



[ صفحه 249]



قال: فخرجت و أخذت خاتما علي الصفة التي أمرني بها، ثم رجعت اليه لوداعه، فودعته و انصرفت. فلما بعدت عن أمر بردي، فرجعت اليه.

فقال: يا صافي.

قلت: لبيك يا سيدي.

قال: ليكن معك خاتم آخر فيروزج. فانه يلقاك في طريقك أسد بين طوس و نيسابور، فيمنع القافلة من المسير، فتقدم اليه، و أره الخاتم، و قل له: مولاي يقول لك: تنح عن الطريق... ثم قال: ليكن نقشة: الله الملك، و علي الجانب الآخر: الملك الله الواحد القهار، فان خاتم أميرالمؤمنين عليه السلام كان عليه: الله الملك، فلما ولي الخلافة نقش علي خاتمة: الملك لله الواحد القهار.. و كان فصه - من - فيروزج، و هو أمان من السباع خاصة، و ظفر في الحروب.

قال الخادم: فخرجت في سفري فلقيني و الله السبع، ففعلت ما أمرت.

و رجعت فحدثته عليه السلام فقال لي: بقيت عليك خصلة لم تحدثني بها؛ ان شئت حدثتك بها! فقلت: يا سيدي، لعلي نسيتها.

فقال: نعم، بت ليلة بطوس عند القبر، فصار الي القبر قوم من الجن لزيارته، فنظروا الي الفص في يدك فقرأوا نقشه، فأخذوه من يدك و صاروا الي عليل لهم و غسلوا الخاتم بالماء و سقوه ذلك الماء فبري ء، و ردوا الخاتم اليك. و كان الخاتم في يدك اليمني فصيره في يدك اليسري، فكثر تعجبك من ذلك و لم تعرف السبب فيه. و وجدت عند رأسك حجر ياقوت فأخذته و هو معك. فاحمله الي السوق فانه ستبيعه بثمانين دينارا.



[ صفحه 250]



فحملته الي السوق و بعته بثمانين دينارا كما قال سيدي [28] .

أول هذه القصة نصائح يقصد بها اليمن و البركة، أسداها امام كريم لخادمه الأمين و وليه الحميم... ولكن أنه سيلقي القافلة أسد عين له زمان لقائه و مكانه، فأمر عجيب!. و أعجب منه أن ذلك الأسد يأتمر بأمر الامام لمجرد رؤية الخاتم و سماع أمره له بالتنحي عن الطريق!!! و ليس بأقل عجبا و غرابة تذكير الامام عليه السلام لخادمه بما نسي ذكره من نقل الخاتم من يد الي يد أثناء نومه الذي عين زمانه و مكانه، و ذكر الياقوتة التي وجدها تحت رأسه و التي عرف ثمنها بالدقة المدهشة!!!

و نحن اذا استقصينا آيات علمه صلوات الله عليه، و ما ظهر من معاجزه في هذه الحادثة لطال بنا المقام و كثر الكلام. ولكن حين نسلم بقدرة الخالق عز اسمه المطلقة، و بقوته المهيمنة علي كل شي ء من الذرة الي المجرة، نؤمن بأنه سبحانه لا يمنع مننه عن عبده الصالح المقرب المختار، ثم نقنع بأن القادر علي ايجاد جميع الكائنات وفق نظام دقيق أزلي، قادر علي أن ينتجب من خلقه عبادا مكرمين (لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون (27)) [29] يزودهم بما لا مزيد عليه من التوفيق و التسديد، و يؤيدهم بملائكة يحملون اليهم بريد القدرة الالهية و مستجدات الأقضية السماوية ساعة بعد ساعة...

و من ذلك ما رواه محمد بن عيسي، عن أبي علي بن راشد - وكيل امامنا و معتمده - حين قال:



[ صفحه 251]



«قدمت علي أحمال - أي أموال و حقوق و هدايا للامام من مواليه - فأتاني رسوله قبل أن أنظر في الكتب أن أوجه بها اليه: (سرح الي بدفتر كذا)... و لم يكن عندي في منزلي دفتر أصلا... فقمت أطلب ما لا أعرف - بالتصديق له - فلم أقع علي شي ء.

فلما ولي الرسول قلت له: مكانك... فحللت بعض الأحمال فتلقاني دفتر لم أكن علمت به!. الا أني علمت أنه لم يطلب الا حقا، فوجهت به اليه» [30] .

و تلاحظ أنه عليه السلام قد علم بوصول الأحمال الي وكيله، و علم أمر الدفتر المخبأ في بعض الأكياس. ثم أرسل بطلب ذلك كله قبل أن يعرف وكيله بشي ء من تلك التفصيلات...

فمن أين للامام عليه السلام ذلك؟.

... لا من أين؟. و لا كيف؟. و لا لماذا؟. فان آيات الأئمة عليهم السلام و دلالاتهم أكثر من أن يحاط بها؛ و لو لا ها لفضل كثيرون لشدة ما حصل عليهم و علي أوليائهم من ضيق السلطات الدنيوية، فثبتوا علي الحق... و قد هلك بانكارها عليهم الأكثرون...

و روي الحسين بن محمد - معنعنا - عن اسحاق الجلاب الذي قال:

«اشتريت لأبي الحسن عليه السلام غنما كثيرة، فدعاني فأدخلني من اصطبل داره - حظيرة حيواناته - الي موضع واسع لا أعرفه، فجعلت أفرق تلك الغنم في من أمرني به.

فبعثت الي أبي جعفر - ابنه الكبير - و الي والدته و غيرهما ممن أمرني



[ صفحه 252]



به، ثم استأذنت في الانصراف الي بغداد الي والدي، و كان ذلك يوم التروية - أي قبيل عيد الأضحي المبارك - فكتب الي: تقيم غدا عندنا، ثم تنصرف.

قال: فأقمت... فلما كان يوم عرفة أقمت عنده، و بت ليلة الأضحي في رواق له. فلما كان في السحر أتاني فقال لي: يا اسحاق، قم.

فقمت، ففتحت عيني فاذا أنا علي باب داري ببغداد. فدخلت علي والدي، و أتاني أصحابي فقلت لهم: عرفت بالعسكر - أي قضيت يوم عرفة - و خرجت الي العيد ببغداد» [31] .

و انك لسعيد يا اسحاق الجلاب اذ «عرفت» بخدمة امامك الكريم في سامراء، و خرجت الي العيد صباحا في بغداد دون أن تشعر بوعثاء السفر في طريق طولها قرابة مئة و عشرين كيلومترا!.

فقد طويت لك الأرض كما تطوي للأولياء و الصلحاء بقدرة الله عز اسمه، و ببركة امامك العظيم الذي لم يحملك هذه «الرسالة المعجزة» الا ليشد بها قلوب مواليه من شيعته في بغداد... بل عبر الأجيال حيث بتناقلها الناس منذئذ حتي أيامنا هذه.

و قد أديتها بأمانة و بمنتهي البساطة... و أنا أنقلها الي اخواني من خلالك و لك أجرها و فخرها.

و سعيد مثلك من سمع فوعي... و فكر و قدر، فآمن و استعبر!. و أيقن أنه سبحانه تنفتح باسمه الأعظم مغالق أبواب السموات و الأرض، و يسهل كل صعب.



[ صفحه 253]



و قد روي عن يحيي بن زكريا الخزاعي، عن أبي هاشم الجعفري، أنه قال:

«خرجت مع أبي الحسن عليه السلام الي ظاهر سر من رأي يتلقي بعض الطالبيين، فأبطأ.

فطرحت له غاشية السرج فجلس عليها، و نزلت فجلست بين يديه و هو يحدثني. فشكوت له قصور يدي و ضيق عيالي، فأهوي الي رمل كان عليه جالسا، فناولني منه أكفا، و قال: اتسع بهذا يا أباهاشم، و اكتم ما رأيت.

فخبأته معي و رجعنا، فأبصرته فاذا هو يتقد كالنيران ذهبا أحمر!.

فدعوت صائغا الي منزلي، و قلت له: اسبك لي هذا سبيكة.

فسبكه و قال، ما رأيت ذهبا أجود من هذا!. و هو كهيئة الرمل. فمن أين لك هذا؟. فما رأيت أعجب منه!.

فقلت: هذا شي ء عندنا قديم تدخره لنا عجائزنا علي طول الأيام [32] .

أمن يمسكون الرمل و التراب فينقلب بأيديهم الشريفة الي نضار من ذهب و هاج اذا لزم الأمر، و يسدون به حاجات أصحابهم و مواليهم: أسأل الله من فضله أن يثبتنا علي ولايتكم و الاعتراف بحقكم، و أن يعجل فرج غائبكم المنتظر ليقيم العدل في المعمور بعد أن غرقت به الظلم و الجور، و ليهدي الناس الي سواء السبيل، فلا يعبد طواغيت المال و جواليت بيع السلاح و فراعنة التسلط و الاستعمار، و أهل الاستكبار، من دون الله، فيحق الحق، و يزهق الباطل...



[ صفحه 254]



ثم قال أبوهاشم الجعفري ذاته: «دخلت عليه بسر من رأي و أنا أريد الحج، لأودعه، فخرج معي. فلما انتهي الي آخر الحاجز نزل و نزلت معه. فخط بيده الأرض خطة شبيهة بالدائرة ثم قال لي: يا عم، خذ ما في هذه؛ يكون في نفقتك، و تستعين به علي حجك.

فضربت بيدي فاذا سبيكة من ذهب، فكان فيها مئتا مثقال [33] .

و تفسير وجود هذه السبيكة في الأرض، و في تلك البقعة بالذات، و ضمن الدائرة التي خطها الامام عليه السلام بالتأكيد، لا يتيسر شرحه بالمعقول الذي يستسيغه الفكر و تركن اليه النفس... و ما هو الا معجز في المعاجز التي لا يأتي بها الا أمناء الله و صفوته من بريته!. و لو فرضنا أن أحدنا طمر هذه السبيكة في ذلك الموضع في يوم من الأيام، لضل عن مكان وجودها بالدقة التي حددها امامنا الكريم عليه السلام في تلك اللحظة حين خط الدائرة التي هي في وسطها بالذات!.

و قد كانت للامام سلام الله عليه عناية خاصة بأبي هاشم هذا، لأنه كان من ثقات أصحابه المخلصين و من رجاله الثابتين علي الحق، الي جانب كونه شيخا جليلا طاعنا في السن، و كونه من أولاد عمه المتحدرين من جعفر - الطيار - بن أبي طالب عليه السلام [34] .

و قد حدث عنه أبوالقاسم، عبدالله بن عبدالرحمان الصالحي، قائلا:



[ صفحه 255]



«ان أباهاشم الجعفري شكا الي مولانا أبي الحسن ما يلقي من الشوق اليه اذا انحدر من عنده الي بغداد، و قال له: يا سيدي ادع الله لي، فربما لم أستطع ركوب الماء فسرت اليك علي الظهر. و ما لي مركوب سوي برذوني هذا علي ضعفه. فادع الله أن يقويني علي زيارتك.

فقال: قواك الله يا أباهاشم، و قوي برذونك.

قال - المحدث -: فكان أبوهاشم يصلي الفجر ببغداد، و يسير علي ذلك البرذون، فيدرك الزوال - الظهر - من يومه ذلك عسكر سر من رأي، و يعود من يومه الي بغداد اذا شاء علي ذلك البرذون بعينه!. فكان ذلك من أعجب الدلائل التي شوهدت [35] .

و ما أكثر دلائل امامتك يا مولاي، و ما أوضح برهانك و أعظم شأنك!.

لم تكن مجهول المقام عند الخاص و العام... و (ان الذين ارتدوا علي أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدي الشيطان سول لهم و أملي لهم (25)!.) [36] .

ولكن قول «الصالحي» حق... فان قضية البرذون لمن أدل الدلائل علي كرامتك عند خالقك العظيم الذي أمدك بالعظمة الروحانية المنقطعة النظير!. فأن يقطع البرذون ما يقرب من مئتين و خمسين كيلومترا في جزء من بياض النهار - ذهابا و ايابا - فهذا يعني أن سرعة ذلك الحيوان كانت فائقة الوصف و لا تتيسر لدابة في الأرض الا اذا كان ذلك آية من آيات الله تبارك و تعالي، لأن السيارة تقضي قريبا من هذا الوقت ذهابا و ايابا اذا استثنينا وقت



[ صفحه 256]



صلاة الظهر و تناول طعام الغداء و أخذ قسط من الراحة قبل استئناف المسير للعودة!.

أفلم ير الناس يومئذ ذلك، و لم يسمعوا به (فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو ءاذان يسمعون بها فانها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور(46)) [37] .

و قال أبوهاشم الجعفري، المذكور آنفا: «أصابتني ضيقة شديدة فصرت الي علي بن محمد عليه السلام، فأذن لي. فلما جلست قال: يا أباهاشم، أي نعم الله عزوجل عليك تريدن أن تؤدي شكرها؟!.

قال أبوهاشم: فوجمت، فلم أدر ما أقول له.

فأبتدأني عليه السلام، فقال: رزقك الايمان فحرم به بدنك علي النار، و رزقك العافية فأعانك علي الطاعة، و رزقك القنوع فصانك عن التبذل... يا أباهاشم، انمان ابتدأتك بهذا لأني ظننتك تريد أن تشكو لي من فعل بك هذا. و قد أمرت لك بمئة دينار فخذها [38] .

فهل أدركت النكتة الخفية التي استثارها الامام عليه السلام في نفس صاحبه الحبيب و ابن عمه القريب، حين أمسك بقلبه ورده الي ساحة الايمان الرحبة لما علم أنه جاء يريد أن يشكو له «من» قدر عليه ضيق العيش و الحاجة؟! فقد عدد له نعم الله التي متعه بها طيلة عمره، و جعل في جملتها صونه عن التبذل و السؤال... ثم رفده بالمال من غير من، فرجع في حامدا شاكرا «جميع» أنعم ربه تعالي عليه... ذلك أن المؤمن يلجأ الي الله أول ما يلجأ، و يسأل الله من



[ صفحه 257]



فضله أول ما يسأل، و الله تعالي أعلم بالعبد من نفسه و أرأف به من أمه و أبيه، فقد يعطيه آنا حيث يصلحه العطاء، و قد يحرمه آنا آخر حين يصلحه الحرمان...

... و ننتقل من هذا النوع من الدلائل الي نوع آخر فيه بيان و تبيان... فقد روي الفحام، عن المنصوري، عن عم أبيه، فقال:

«قال يوما الامام علي بن محمد عليهماالسلام: أخرجت الي سر من رأي كرها؛ و لو أخرجت عنها أخرجت كرها.

قلت: و لم يا سيدي؟.

قال: لطيب هوائها، و عذوبة مائها، و قلة دائها.

ثم قال عليه السلام: تخرب سر من رأي حتي يبقي فيها خان و يقال للمارة!. و علامة خرابها تدارك العمارة في مشهدي من بعدي» [39] .

و قوله الأخير من أعلام الغيب المحتوم و من دلائل سفارته الالهية و آيات اعجازه، لأن سر من رأي خرجت كما وصف - عسكريا، و كدار للخلافة و السلطان - و ذهب عزها الباذخ حين ارتفعت قباب مشهده و مشهد ابنه العسكري عليهماالسلام، و لما سمقت مآذن مشهدهما في الأجواد، و عكف الزوار علي قصده قأمته الشيعة من أطراف الأرض، و بدأ عمران البلدة منذئذ لخدمة الزائرين و الاستفادة منهم... فلم تعد تسر من رأي بعد قوله الكريم بأعوام اذ ذهب ببنيانها الحدثان و ذهب معها عصاة الرحمان من سلاطين ذلك الزمان...



[ صفحه 258]



و قال أحمد بن عيسي الكاتب:

رأيت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فيما يري النائم كأنه نائم في حجري، و كأنه دفع الي كفا من تمر عدده خمس و عشرون تمرة.

قال: فما لبثت الا و أنا بأبي الحسن، علي بن محمد عليهماالسلام و معه قائد، فأنزله في حجرتي - أي أنزل القائد الامام عليه السلام سجينا في غرفة كاتب القصر المذكور-.

و كان القائد يبعث و يأخذ من العلف من عندي، فسألني يوما: كم لك علينا؟.

قلت: لست آخذ منك شيئا.

فقال لي: هل تحب أن تدخل الي هذا العلوي فتسلم عليه؟. - أي علي الامام المحبوس -.

قلت: لست أكره ذلك...

فدخلت فسلمت عليه و قلت له: ان في هذه القرية كذا و كذا من مواليك، فان أمرتنا بحضورهم فعلنا.

قال: لا تفعلوا.

قلت: فان عندنا تمورا جيادا، فتعأذن لي أن أحمل لك بعضها؟.

فقال: ان حملت شيئا يصل الي، ولكن أحمله الي القائد فانه سيبعث الي منه.

فحملت الي القائد أنواعا من التمر، و أخذت نوعا جيدا في كمي، و سكرجة - صحفة - من زبد فحملته اليه، ثم جئت. فقال لي القائد: أتحب أن تدخل علي صاحبك؟.



[ صفحه 259]



قلت: نعم.

فدخلت فاذا قدامه من ذلك التمر الذي بعثت به الي القائد. فأخرجت التمر الذي كان معي و الزبد فوضعته بين يديه.

فأخذ كفا من تمر و دفعه الي و قال: لو زادك رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لزدناك!.

فعددته فاذا هو كما رأيت في النوم لم يزد و لم ينقص» [40] .

فيا رب، من أتي الامام بخبر ما رآه أحمد بن عيسي في المنام حين أعطاه النبي صلي الله عليه و آله و سلم خمسا و عشرين تمرة؟!! فأعطاه الامام بعددها دون زيارة و دون نقصان؟!

الله وحده تبارك و تعالي يعلم تفصيل ذلك... ولكننا نحن - أيضا - نعمل اجماله، فان سبحانه لا يخفي عن وليه شيئا من الأمور سوي ما استأثر به لنفسه من علم الساعة و قيام القيامة.

فصدق، أو لا تصدق ذلك، فان الكثيرين لا يزالون ينكرون كروية الأرض و دورانها علي نفسها حول الشمس، و ينكرون الطلوع الي القمر و غزو الكواكب، و يتنكرون لأشياء كثيرة أصبحت من البديهيات... و ان كان انكارهم لا يغير شيئا من تلك الوقائع.

«و كتب اليه - عليه السلام - محمد بن الحسين بن مصعب المدائني يسأله عن السجود علي الزجاج - و قال -:



[ صفحه 260]



فلما نفذ الكتاب حدثت نفسي أنه مما أنبتت الأرض و أنهم قالوا: لا بأس بالسجود علي ما أنبتت الأرض.

قال: فجاء الجواب: لا تسجد عليه و ان حدثت نفسك أنه مما أنبتت الأرض، فانه من الرمل و الملح،م و الملح سبخ» [41] .

فهل باستطاعة أحد من الناس معرفة ما تحدث به نفوس الآخرين حتي و لو فصلت بينه و بينهم المسافات؟!.

لا؛ و لو أردنا استقصاء ما جري مع أئمتنا عليهم السلام مما ابتدأوا به الناس من كشف عما يجول في نفوسهم و يعتمل في ضمائرهم، و تتحدث به خواطرهم قبل أن يفرهوا به، لأحصينا رمل البحار قبل ذلك و لبقينا نروي أحداثا ليس لها نهاية...

فقد قال محمد بن شرف:

«كنت مع أبي الحسن عليه السلام أمشي في المدينة، فقال لي: ألست ابن شرف؟.

قلت: بلي...

و أردت أن أسأله عن مسألة، فابتدأني من غير أن أسأله فقال: نحن علي قارعة الطريق، و ليس هذا موضع مسألة» [42] .

و قال أحمد بن محمد بن عبدالله: «كان عبدالله بن هليل - و قيل ابن هلال - يقول بعبد الله - أي يقول بامامه عبدالله الأفطح - فصار الي العسكر - سامراء - فرجع عن ذلك.



[ صفحه 261]



فسألته عن سبب رجوعه فقال: اني عرضت لأبي الحسن عليه السلام أن أسأله عن ذلك - أي تعرض له - فوافقني في طريق ضيق، فمال نحوي حتي اذا حاذاني أقبل نحوي بشي ء من فيه، فوقع علي صدري.

فأخذته فاذا هو رق فيه مكتوب: ما كان هنالك، و لا كذلك» [43] .

أي ما كان عبدالله الأفطح في مقام الامامة، و لا كان كذلك مستحقان لها... و قد صرت تعرف كيف علم هذا الامام الهاشمي العظيم ما دار في نفس المدائني بعد أن أنفذ اليه الكتاب سائلا علي صحة السجود علي الزجاج، و كيف ابتدأ محمد بن شرف بالقول قبل أن يسأله، و كيف أجاب أحمد بن محمد - من غير أن يسأله -: أن صاحبه الذي يتولاه ليس أهلا للولاية و لا هو كف ء لأن يكون حجة علي البشر... و لم يعد مستهجنا عندك علم الامام بما في النفوس، و لا مستغربا أن يكون الله تعالي مع حجته علي العالمين في كل حين، يمنحه علما يثبت كونه الحجة و الامام بلا منازع.

و نطوي هذه الصفحة أيضا لنستعرض نوعا آخر من أنواع الدلالات التي لا تكون الا لولي الله علي العباد مهما تنكر لها أهل المروق و العناد و الكفر بكل ما ينزل من فوق، و بما ينسب الي السماء!.

قال أحمد بن هارون: «كنت جالسا أعلم غلاما من غلمانه في فازة داره - أي في مظلة ذات عمودين كالخيمة - اذ دخل علينا أبوالحسن عليه السلام راكبا علي فرس له.

فقمنا اليه، فسبقنا قبل أن ندنو منه، فأخذ عنان فرسه بيده فعلقه في طنب من أطناب الفازة.



[ صفحه 262]



ثم دخل فجلس معنا، فأقبل علي و قال: متي رأيك أن تنصرف الي المدينة؟.

فقلت: الليلة.

قال: فأكتب اذا كتابا معك توصله الي فلان التاجر.

قلت: نعم.

قال: يا غلام، هات الدواة و القرطاس.

فخرج الغلام ليأتي بهما من دار أخري...

فلما غاب الغلام، صهل الفرس و ضرب بذنبه، فقال له بالفارسية: ما هذا القلق؟. - أي ما هذا الضجر؟ -.

فصهل الثانية فضرب بيده، فقال له بالفارسية، اقلع - أي اخلع رسنك - فامض الي ناحية البستان و بل هناك ورث و ارجع فقف هناك مكانك.

فرفع الفرس رأسه و أخرج العنان من موضعه، ثم مضي الي ناحية البستان حتي لا نراه في ظهر الفازة، فبال وراث و عاد الي مكانه.

فدخلني من ذلك ما الله به عليم!. فوسوس الشيطان في قلبي... فقال:يا أحمد، لا يعظم عليك ما رأيت، ان ما أعطي الله محمدا و آل محمد أكثر مما أعطي داود و آل داود.

فقلت: صدق ابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. فما قال لك، و ما قلت له، فقد فهمته؟ -.

فقال: قال لي الفرس: قم فاركب الي البيت حتي تفرغ عني.

قلت: ما هذا القلق؟.

قال: قد تعبت.



[ صفحه 263]



قلت: لي حاجة، أريد أن أكتب كتابا الي المدينة، فاذا فرغت ركبتك.

قال: اني أريد أن أبول و أروث، و أكره أن أفعل ذلك بين يديك.

فقلت: اذهب الي ناحية البستان فافعل ما أردت، ثم عد الي مكانك. ففعل الذي رأيت.

ثم أقبل الغلام بالدواة و القرطاس و قد غابت الشمس. فوضعهما بين يديه، فأخذ في الكتابة حتي أظلم الليل فيما بيني و بينه فلم أر الكتاب، و ظننت أنه أصابه الذي أصابه فقلت للغلام: قم فهات شمعة من الدار حتي يبصر مولاك كيف يكتب. فمضي...

فقال للغلام: ليس الي ذلك حاجة.

ثم كتب كتابا طويلا الي أن غاب الشفق. ثم قطعه فقال للغلام: أصلح. - أي اطوه و غفله -. و أخذ الغلام الكتاب و خرج الي الفازة ليصلحه ثم عاد اليه و ناوله ليختمه، فختمه عن غير أن ينظر الي الخاتم مقلوبا أو غير مقلوب... فناولني، فقمت لأذهب فعرض في قلبي قبل أن أخرج من الفازة أن أصلي قبل أن آتي المدينة.

قال: يا أحمد، صل المغرب و العشاء في مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و اطلب الرجل في الروضة فانك توافقه ان شاء الله.

فخرجت مبادرا، فأتيت المسجد و قد نودي العشاء الآخرة. فصليت المغرب، ثم صليت معهم العتمة و طلبت الرجل حيث أمرني، فوجدته فأعطيته الكتاب.

و أخذه و فضه ليقرأه فلم يستبن قراءته في ذلك الوقت. فدعان بسراج فأخذته و قرأته عليه في السراج في المسجد، فاذا خط مستو ليس حرف ملتصقا بحرف، و اذا الخاتم مستو ليس بمقلوب.



[ صفحه 264]



فقال الرجل: عد الي غدا حتي أكتب جواب الكتاب... فغدوت، فكتب الجواب.

فجئت اليه (عليه السلام) فقال: أليس قد وجدت الي حيث قلت لك؟.

فقلت: نعم.

قال: أحسنت» [44] .

و يظهر واضحا أن الفازة المذكورة كانت في دار الامام عليه السلام في صريا بظاهر المدينة المنورة. و في القصة أشياء لا يجوز أن تتجاوز دون تدوين.

فالامام عليه السلام يكلم حصانه كما يكلم العقلاء!. و يتلقي الجواب، نمت و يرد عليه... و يأمره بفعل فيباشر تنفيذه و يعود ممتثلا أمر صاحبه... كالعقلاء... في حوار جري باللغة الفارسية دهش منه صاحبه أحمد بن هارون فقال عليه السلام: لا يعظم عليك ما رأيت... ثم ذكر له النبي داود عليه السلام و آل داود مشيرا الي أن أئمة أهل البيت عليهم السلام أوتوا «كل شي ء» في حين أن آل داود عليهم السلام أتوا «من كل شي ء» و لم يؤتوا «كل شي ء» كما نص علي ذلك القرآن الكريم...

ثم كتب كتابا طويلا كما يدل وقت استغراق كتابته، و حرره في العتمة، لأن الامام الذي يري من الخلف كما يري من الأمام، و الذي له عينان يخترق بصرهما الكثافات و الجدران و المسافات، لا تعجزه العتمة و لا الظلمة.

و عرف أيضا مراد صاحبه بأن يصلي قبل السفر الي المدينة، فأمره أن يصلي هناك في مسجد النبي صلي الله عليه و آله و سلم، ثم عين له مكان الصلاة، و مكان



[ صفحه 265]



اجتماعه بالتاجر الذي وجه الكتاب اليه من غير أن يكون علي موعد مع التاجر زمانا و مكانا!!!.

فكيف تؤول هذه الأمور العجيبة؟.

لا تأويل لها يرتضيه الأرضيون المماحكون... و لا تبديل لكلمات الله مهما جحدها المغضوب عليهم و الضالون... و قد سبق أن ذكرنا أن نبينا صلي الله عليه و آله و سلم، و جميع أئمتنا عليهم السلام، يتكلمون بكل لغة، و بكل لسان، و بكل لهجة، و ذكرنا أمثلة كافية علي ذلك.

و نذكر منها أيضا ما حكاه محمد بن عيسي - عن علي بن مهزيار عن الطيب الهادي عليه السلام، اذ قال:

«دخلت عليه فكلمني بالفارسية» [45] .

و نردف بما حكاه علي بن مهزيار نفسه اذ قال:

«أرسلت غلاما لي الي أبي الحسن في حاجة، و كان سقلابيا، فرجع الغلام الي متعجبا، فقلت له: مالك يا بني؟!.

فقال لي: و كيف لا أتعجب!. ما زال يكلمني بالسقلابية كأنه واحد منا، فظننت أنه دار بينهم!» [46] .

و قد أورد المجلسي رحمه الله في سفره النفيس «بحارالأنوار» كثيرا من القصص التي روي فيها أنه عليه السلام تكلم بغير العربية، يطول بنا المقام اذا ذكرناها. و مثل هذه الحوادث ليس بعجيب علي الامام و لا علي آبائه و أبنائه



[ صفحه 266]



المعصومين صلوات الله عليهم، بل العجيب الغريب ما رواه الثقة الجليل أبوهاشم الجعفري الذي قال:

«دخلت الي أبي الحسن عليه السلام فكلمني بالهندية، فلم أحسن أن أرد عليه.

و كان بين يديه ركوة ملأي حصي، فأخذ حصاة و وضعها في فمه و مصها ثلاث مصات - مليا - و دفعها الي، فوضعتها في فمي.

فوالله ما برحت من عنده حتي تكلمت بثلاثة و سبعين لسانا أولها الهندية» [47] .

فأن يتكلم الامام عليه السلام بكل لسان و يعرف كل لغة، ليس بمستهجن مطلقا لأنه مخلوق هكذا من عند ربه الذي رصده سبحانه لصالح عباده أجمعين، و آتاه ذلك خلقا و انشاء كما آتي آدم الأسماء كلها دفعة واحدة- خلقا - و انشاء - فأنبأ بها الملائكة الذين لم يعلمهم سبحانه اياها... فلا يجوز الا أن يتكلم الامام بكل لغة و لسان، كما أن الحكومة لا تنتدب الي القيام بأعمالها لدي حكومة أخري، الا من كان يعرف لغة تلك الحكومة أو لغة أجنبية علي الأقل فيرافقه مترجم بتقنها... ولكن المستهجن الغريب هو أن من حظي برشف شي ء من ريق الامام الشريف - و أراد له الامام أن يتكلم باذن الله بكل اللغات - تكلم باذن ربه!. فهنا تكمن الآية الخارقة التي هي من سرهم الممنوح لهم من سر الله تعالي، و قدرته و عطائه... و لا تستقص ذلك أكثر فأكثر فتضل، لأنك اما أن تكفر بذلك فتكون من الخاسرين... و اما أن تضع الأئمة «فوق» ما هم فيه فتكون من المشركين... فابق النمرقة الوسطي التي



[ صفحه 267]



تؤمن بهم أولياء قادرين بقدرة الله عزوعلا، عاملين بأمره لا يتعدون ما يرضاه الي ما لا يرضاه... و (الله أعلم حيث يجعل رسالته...) [48] .

... ثم تزود مائدتنا الذهنية هذه، بألوان من آيات امامنا عليه السلام و معجزاته التي بهرت معاصريه فأمسكت بقلوب الأولياء و رفعتهم الي مرتبة الصديقين، و أغاظت قلوب الأعداء و ملأت صدورهم حسدا و غلا و حقدا، تأثرا بما أملي لها الشيطان فأبعدها عن التصديق بكل ما نزل من عند الرحمان الديان.

قال علي بن محمد الحجال:

«كتبت الي أبي الحسن: أنا في خدمتك، و أصابتني علة في رجلي لا أقدر علي النهوض و القيام بما يجب. فان رأيت أن تدعو الله أن يكشف علتي و يعينني علي القيام بما يجب علي و أداء الأمانة في ذلك، و يجعلني من تقصيري - من غير تعمد مني، و تضييع ما لا أتعمده من نسيان يصيبني - في حل، و يوسع علي. و تدعو لي بالثبات علي دينه الذي ارتضاه لنبيه صلي الله عليه و آله و سلم.

فوقع عليه السلام: كشف الله عنك و عن أبيك.

قال: و كان بأبي علة و لم أكتب فيها، فدعا له ابتداء» [49] .

فالحجال لم يذكر علة أبيه قط... ولكن الامام عليه السلام لم ينس أن يدعو له كمان دعا لابنه... فكيف عرف مرض الأب و حاجته الي الدعاء و هو بعيد عنه؟.



[ صفحه 268]



قد صار ذلك غير خاف علي القاري ء الكريم بعد ما مر الكثير من هذا القبيل... فان ملائكة موكلين باعلامه جميع ما يكون، هم مسخرون لاعلامه، يعملون بين يديه بأسرع من لمح البصر و سرعة النور، و بأدق عن السرعة الالكترونية...

و قال محمد بن الريان بن الصلت:

«كتبت الي أبي الحسن أستأذنه في كيد عدو لم يمكن كيده. فنهاني عن ذلك و قال كلاما معناه: تكفاه.

فكفيته و الله أحسن كفاية: ذل و افتقر، و مات أسوأ الناس حالا في دنياه و دينه» [50] .

و مما لا شك فيه أن ذلك العدو كان ناصبيا شديد التعصب يكايد محمد بن الريان لأنه من خيرة الموالين و أجل الأصحاب و أوثقهم عند أئمة عصره عليهم السلام... و أن محمد بن الريان قد كابد من ذلك العدو كثيرا من الأذي و الضرر، و ضاق به ذرعا حتي لجأ الي الستشارة الامام عليه السلام بشأن مكايدته و مكابدته... ولكن كيف انكشف الغيب للامام فعرف أنه يكفاه: فيذل، و يفتقر، و يموت أسوأ ما يكون دنيا و دينا؟!.

قد كشف له ذلك مقدر الأمور سبحانه و تعالي، ليكون آية دالة علي قدرة الله الواحد الأحد...



[ صفحه 269]



و مثلها ما ذكره أيوب بن نوح - و هو أحد المؤمنين الأبدال كما تري في فصل آخر من هذا الكتاب - اذ قال:

«كتبت الي أبي الحسن: قد تعرض لي جعفر بن عبدالواحد القاضي، و كان يؤذيني بالكوفة؛ أشكو اليك ما ينالني منه من الأذي.

فكتب الي: تكفي أمره الي شهرين.

فعزل عن الكوفة في شهرين، و استرحت منه!» [51] .

ألا ان مرسوم عزل فضلة القاضي الساخر الماكر لم يكن بيد الامام عليه السلام، و لا وضع بناء علي اقتراحه عند حاكم الزمان!. و مع ذلك عين وقت صدوره بعزل ذلك القاضي و خذلانه قبل وقوع ذلك!. و كان الأمر كما عين وحدد... فهلا فكرت معي دقيقتين - لا شهرين - كيف يعلم هذا الامام العظيم ما يحدث في المستقبل من أمور كبيرة و صغيرة، ثم يتحدث عنها بترسل و كأنه سينفذها بيده و بكامل ارادته؟!.

اذا تفكرت و تدبرت، علمت أن للأئمة عليهم السلام بريدا الهيا دبلو ماسيا لا يطلع عليه الا الملائكة الموكلون به، و أنهم مسددون مؤيدون تحدثهم الملائكة و تلقي في أسماعهم، و يلهمون فيقولون... فلا يكون الا ما يقولون بعلم علمهم الله تعالي اياه.

و كذلك قال أيوب بن نوح المذكور رحمه الله تعالي:

«كتبت الي أبي الحسن أن لي حملا، فادع الله أن يرزقني ابنا.

فكتب الي: اذا ولد فسمه محمدا.



[ صفحه 270]



قال: فولد لي ابن فسميته محمدا... و كان ليحيي بن زكريا حمل فكتب اليه ان لي حملا فادع الله أن يرزقني ابنا. فكتب اليه: رب ابنة خير من ابن. فولدت له ابنة» [52] .

و ليس هذا من حساب الجمل، و لا هو ضرب بالرمل، و لا من التنجيم... بل هو من علم الله الكريم الوهاب الذي يعطي أولياءه ما لا يعطيه لغيرهم من العلم و الفضل و الحكمة، و العصمة عن خطل القول و هجر الكلام، فلا تسأل بعد ذلك: كيف؟. و لم؟. و لماذا؟ و لا تتعجب، و لا تقل كيف كان هذا؟. فالله سبحانه من وراء ذلك كله (و لا يحيطون بشي ء من علمه الا بما شآء...) [53] .

و في رواية عن أبي محمد الطبري أنه قال:

«تمنيت أن يكون لي خاتم من عنده عليه السلام، فجاءني نصر الخادم بدرهمين فصنعتهما خاتما.

و دخلت علي قوم يشربون الخمر، فتعلقوا بي فشربت قدحا و قدحين.

و كان - الخاتم - ضيقا في اصبعي ال يمكنني ادارته للوضوء. فأصبحت و قد افتقدته... فتبت الي الله تعالي» [54] .

فقد تمني الطبري - فيما بينه و بين نفسه - أن يكون له خاتم من الامام عليه السلام... فاطلع الامام علي منيته و حقق له رغبته من دون أن يطلب و من غير أن يبوح لأحد بذلك، اذا اختصه بالدرهمين لهذه الغاية، و من أجل



[ صفحه 271]



أن يخلصه من شرب المسكر خصوصا، لأنه سلام الله عليه علم ما سيفعله من صنع الخاتم، و شرب الخمر، و علم أن الخاتم سينتزع من اصبعه رغم ضيقه و دون أن يحس ليكون ذلك أية تفتح له باب التوبة عن الشراب المحرم... فخلصه الامام صلوات الله عليه بهذه الطريقة الفريدة.

و قال محمد بن الفضل البغدادي:

«كتبت الي أبي الحسن: ان لي حانوتين - دكانين - خلفهما لنا والدنا رضي الله عنه، و أردنا بيعهما و قد عسر علينا ذلك. فادع لنا يا سيدنا أن ييسر الله لنا بيعهما باصلاح الثمن، و يجعل لنا الخيرة. فلم يجب بشي ء.

و انصرفنا الي بغداد، و الحانوتان قد احترقا» [55] .

فقد علم الامام عليه السلام بحرق الحانوتين لما طلب صاحبهما الدعاء، فلم يدع له و لا أجابه علي كتابه كيلا يزعجه بخبر الحرق. فمن فسر سكوته عن الجواب أدرك علمه اللدني الذي يتلقاه عن ربه عزوعلا الذي (... لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات و لا في الأرض و لآ أصغر من ذلك و لآ أكبر...) [56] .

و قال داود الضرير - داود الصرمي -:

«أردت الخروج الي مكة فودعت أباالحسن بالعشي و خرجت، فامتنع الجمال تلك الليلة.

و أصبحت فجئت أودع القبر - مقام رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم - فاذا رسوله



[ صفحه 272]



يدعوني. فأتيته و استحييت، و قلت: جعلت فداك أن الجمال تخلف أمس... فضحك و أمرني بأشياء و حوائج كثيرة. - و لعله قال، و لم أحفظ ما قال لي -.

فقال: كيف تقول؟. - أي سأله أن يكرر ذكر ما أوصاه به لأنه سلام الله عليه أحس بعدم حفظه للوصايا -.

فلم أحفظ ما قال لي. فمد الدواة و كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أذكر، ان شاء الله، و الأمر بيدك.

فتبسمت، فقال لي: مالك؟.

قلت له: خير.

فقال: أخبرني.

فقلت له: ذكرت حديثا حدثني رجل من أصحابنا أن جدك الرضا كان اذا أمر بحاجة كتب:

بسم الله الرحمن الرحيم، أذكر ان شاء الله.

فتبسم و قال: يا داود، لو قلت لك ان تارك التقية كتارك الصلاة، لكنت صادقا» [57] .

و يلاحظ أنه عليه السلام قد ذكر هنا لصاحبه أمرا هاما يتعلق بالتقية لأن لسان حاله كلسان حال جده الامام عليه السلام الذي قال: التقية ديني و ديني آبائي... ولكن، ما دخل التقية هنا، و ما الموجب لذكرها؟!.

الجواب أنه عرض لها في ختام حواره مع صاحبه بسبب أن الحوائج التي أوصاه بها لم يكتبها لئلا تقع في يد من لا أمانة له من عملاء السلطان



[ صفحه 273]



و أدوات الاستخبارات و التجسس في ذلك العهد الذي أذاق العلويين أمر العيش و أضيقه... و لذلك - فانه بعد أن كرر ذكرها علي مسمع الرجل - طلب اليه أن يعيد تعدادها حتي لا يغير فيها و لا يبدل، كما رأيت.

و قال اسحاق بن عبدالله العلوي العريضي:

«ركب أبي و عمومتي الي أبي الحسن، علي بن محمد عليه السلام، و قد اختلفوا في الأيام الأربعة التي تصام في السنة، و هو مقيم بصريا، قبل مسيره الي سر من رأي.

فقال عليه السلام: جئتم تسألوني عن الأيام التي تصام في السنة.

فقالوا: ما جئنا الا لهذا.

فقال: اليوم السابع عشر من ربيع الأول و هو اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و اليوم السابع و العشرون من رجب و هو اليوم بعث فيه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و اليوم الخامس و العشرون من ذي القعدة و هو اليوم الذي دحيت فيه الأرض، و اليوم الثامن عشر من ذي الحجة و هو يوم الغدير» [58] .

فقد أجابهم قبل أن يسألوه!. و انك لتحسب كأنه كان معهم حين اختلفوا في الموضوع قبل المجي ء اليه عليه السلام، فأعد لهم الجواب و فجأهم به فور وصولهم ليريهم أن الامام لا تخفي عليه أمورهم أينما كانوا، بقدرة الله تعالي و منه عليه بالكرامة و الزلفي.



[ صفحه 274]



و من مكارم أخلاقه و جميل تصرفه، ما حكاه عنه محمد بن طلحة - كما روي الاربلي - حيث قال: «انه كان يوما قد خرج من سر من رأي الي قرية لمهم عرض له، فجاء رجل من الأعراب يطلبه، فقيل له: قد ذهب الي الموضع الفلاني.

فقصده، فلما وصل قال عليه السلام: ما حاجتك؟.

فقال: أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسكين بولاء جدك علي بن أبي طالب عليه السلام، و قد ركبني دين فادح أثقلني حمله، و لم أر من أقصده لقضائه سواك.

فقال له أبوالحسن عليه السلام: طب نفسا، و قر عينا، ثم أنزله.

فلما أصبح ذلك اليوم قال له أبوالحسن عليه السلام: أريد منك حاجة، الله الله أن تخالفني فيها!.

فقال الأعرابي: لا أخالفك.

فكتب أبوالحسن عليه السلام ورقة بخطه، معترفا فيها أن للأعرابي مالا عينه فيها، يرجح علي دينه، و قال: خذ هذا الخط، فاذا و صلت الي سر من رأي احضر الي و عندي جماعة فطالبني به و أغلظ القول علي في ترك ايقائك اياه... الله الله في مخالفتي!.

فقال: أفعل... و أخذ الخط.

فلما وصل أبوالحسن عليه السلام الي سر من رأي، و حضر عنده جماعة كثيرون من أصحاب الخليفة و غيرهم، حضر ذلك الرجل، و أخرج الخط و طالبه و قال كما أوصاه... فألان له أبوالحسن عليه السلام القول، و رفقه و جعل يعتذر اليه، و وعده بوفائه و طيبة نفسه.



[ صفحه 275]



فنقل ذلك الي الخليفة المتوكل، فأمر أن يحمل الي أبي الحسن عليه السلام ثلاثون ألف درهم.

فلما حملت اليه تركها الي أن جاء الرجل، فقال: خذ هذا المال فاقض به دينك، و أنفق الباقي علي عيالك و أهلك، و اعذرنا.

فقال الأعرابي: يا بن رسول الله، الله و ان أملي كان يقصر عن ثلث هذا، ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته، و أخذ المال و انصرف» [59] .

و هذه من مناقب الأوصياء و الأولياء الصالحين يضربون المثل الأعلي في الغيرية ليعلموا الناس كرم الخلق و البر و نفع الآخرين و لو تنازلوا عن شي ء من مراتبهم السامية و تواضعوا ليوصلوا الحق الي مستحقة بحسن التدبير الذي ان خطر ببالك أنه يحط من كرامتهم، كان بالحقيقة من مآثرهم التي ترفع شأنهم و تجعلهم سادة قادة في الأنام يعملون لرضي الله باشاعة العدل، و تبريد غلل ذوي الحاجات من قلوب عباده المحتاجين.

فالامام يعلم أن الدساسين يشون به آنذاك و يتهمونه بجع الأموال و السلاح لينقض علي الحكم بثورة محرقة مغرقة... و يعلم أن مجلسه في سر من رأي - حين مقابلة الأعرابي - سيضم بعض هؤلاء المنافقين... في حين أنه لا مال لديه، و لا سلاح.

و هذا الأعرابي لا حول له و لا طول... و لا يصرف له حق من بيت مال المسلمين لأنه من المتشيعين لعلي و بنيه عليهم السلام، و هو مستغل يقينا من ذوي الاقطاع و الأطماع و ولاة العرش الذين يتعمدون ظلمه و تجويعه... و خير



[ صفحه 276]



طريقة لسد حاجته هو أن ينال حقه الذي كتب الله تعالي له من بيت المال أسوة بغيره من المعاصرين... و لا يوصله الي ذلك الحق الا هذه الطريقة الفذة التي ابتدعها - يومئذ - أبوالحسن عليه السلام ليكذب بها دعوي من يدعي أن الأموال تجبي اليه، و الأسلحة تتجمع في منزله و ما حواليه.

و لهذه المنقبة الشريفة نظيرة لها، رواها الديلمي عن أبي أمامة الذي قال:

«ان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال ذات يوم لأصحابه: ألا أحدثكم عن الخضر؟.

قالوا: بلي، يا رسول الله.

قال: بينا هو يمشي في سوق من أسواق بني اسرائيل، اذ بصر به مسكين فقال: تصدق علي بارك الله فيك.

قال الخضر عليه السلام: آمنت بالله... ما يقضي الله يكون... ما عندي من شي ء أعطيكه.

قال المسكين: بوجه الله لما تصدقت علي. اني رأيت الخير في وجهك، و رجوت الخير عندك.

قال الخضر عليه السلام: آمنت بالله... انك سألتني بأمر عظيم!. ما عندي من شي ء أعطيكه الا أن تأخذني فتبيعني.

قال المسكين: و هل يستقيم هذا؟.

قال عليه السلام: الحق أقول لك، انك سألتني بأمر عظيم!. سألتني بوجه ربي عزوجل... أما اني لا أخيبك في مسألتي بوجه ربي... فبعني.

فقدمه الي السوق، فباعه بأربعمئة درهم!. فمكث عند المشتري زمانا



[ صفحه 277]



لا يستعمله في شي ء. فقال الخضر عليه السلام: انما ابتعتني التماس خدمتي، فمرني بعمل.

قال: اني أكره أن أشق عليك. انك شيخ كبير.

قال: لست تشق علي.

قال: فقم فانقل هذه الحجارة - قال: و كان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم -.

فقام: فنقل الحجارة في ساعته، فقال له: أحسنت و أجملت، و أطقت ما لم يطقه أحد.

ثم عرض للرجل سفر فقال: أني أحسبك أمينا، فاخلفني في أهلي خلافة حسنة. و اني أكره أن أشق عليك.

قال: لست تشق علي.

قال: فاضرب من اللبن شيئا حتي أرجع اليك - أي أصنع من الطين ما يشبه الحجارة للبناء -.

فخرج الرجل لسفره، و رجع و قد شيد بناء!. فقال له الرجل: أسألك بوجه الله ما حسبك و ما أمرك؟!.

قال: انك سألتني بأمر عظيم، وجه الله عزوجل، و وجه الله أوقعني في العبودية، و سأخبرك من أنا... أنا الخضر الذي سمعت به. سألني مسكين صدقة و لم يكن عندي شي ء أعطيه. فسألني بوجه الله عزوجل، فجعلت نفسي عبدا له حتي باعني و انتفع بثمني... و من رد سائله و هو قادر علي ذلك، وقف يوم القيامة ليس لوجهه جلد و لا لحم و لا عظم الا يتقعقع - أي يحدث صوتا عند التحريك! -.

قال الرجل: شققت عليك، و لم أعرفك.



[ صفحه 278]



قال: لا بأس، اتقيت و أحسنت.

قال: بأبي أنت و أمي، احكم في أهلي و مالي بما أراك الله عزوجل، أم أخيرك فأخلي سبيلك؟.

قال عليه السلام: أحب الي أن تخلي سبيلي، فأعبدالله.

فأخلي سبيله، فقال الخضر عليه السلام: الحمد لله أوقعني في العبودية فأنجاني منها» [60] .

فهؤلاء صفوة الصفوة من الناس، قد جبلهم الله سبحانه من طينة عليين ففاقوا جميع العالمين... و لذا يستعصي علي الباحث تحليل شخصياتهم الفذة، و ادراك مغازي أفعالهم، اذ جعلهم خالقهم عز اسمه نماذج عليا من الخلق و الطيبة، تمثل الحق و العدل و البر و الرحمة، و برأهم علي شاكلة الناس، و هم علي غير شاكلتهم بمعني اصطفائهم و عطائهم الرباني و كونهم القدوة المثلي للبشر علي الأرض.



[ صفحه 279]




پاورقي

[1] الأنعام: 37.

[2] الأنعام. 109.

[3] الرعد: 38 و المؤمن: 78.

[4] يس: 15.

[5] التغابن: 6.

[6] التغابن: 6.

[7] كشف الغمة: ج 3 ص 185 و بحارالأنوار: ج 50 ص 155.

[8] المصدر السابق.

[9] مدينة المعاجز: ص 543.

[10] المصدر السابق.

[11] مدينة المعاجز: ص 554.

[12] كشف الغمة: ج 3 ص 180 - 179 و بحارالأنوار: ج 50 ص 142 نقلا عن مختار الخرائج و الجرائح: ص 209، و هو في الأنوار البهية: ص 250 - 249 و مدينة المعاجز: ص 547 و حلية الأبرار: ج 2 ص 465 - 464.

[13] بحاراالأنوار: ج 50 ص 162 - 161 و مدينة المعاجز: ص 548.

[14] كشف الغمة: ج 3 ص 183 - 182 و بحارالأنوار: ج 50 ص 145 - 144 نقلا عن مختار الخرائج و الجرائح: ص 210 و هو في الأنور البهية: ص 252 - 251.

[15] بحارالأنوار: ج 580 ص 185 نقلا عن مشارق الأنوار، و هو في مدينة المعاجز: ص 547.

[16] بحارالأنوار: ج 50 ص 126 و مدينة المعاجز: ص 543 - 542.

[17] بحارالأنوار: ج 50 ص 187 - 186 و مدينة المعاجز: ص 543.

[18] بحارالأنوار: ج 50 ص 186 - 185. و مدينة المعاجز: ص 546.

[19] مدينة المعاجز: ص 559.

[20] بحارالأنوار: ج 50 ص 174 و مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 417 - 416 و مدينة المعاجز: ص 554.

[21] ابراهيم: 38.

[22] مناقب آل أبي طالب، ج 4 ص 414 و بحارالأنوار: ج 50 ص 127 - 126 و مدينة المعاجز: ص 542 و الأنوار البهية: ص 247 - 246 و حلية الأبرار: ج 2 ص 456 - 455 نقلا عن الأمالي: ص 187.

[23] يونس: 99.

[24] الاسراء: 89 و الفرقان: 50.

[25] الارشاد: ص 313 - 312 و كشف الغمة: ج 3 ص 172 - 171 و بحارالأنوار: ج 50 ص 151 - 150 و مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 408 و الكافي: م 1 ص 502 و مدينة المعاجز: ص 541.

[26] كشف الغمة: ج 3 ص 183 و بحارالأنوار: ج 50 ص 146 - 145 و مدينة المعاجز ص 549 - 548.

[27] المائدة: 110.

[28] الأنوار البهية: ص 253 - 252.

[29] الأنبياء: 27.

[30] بحارالأنوار: ج 50 ص 130 نقلا عن بصائر الدرجات: ص 249.

[31] بحارالأنوار: ج 50 ص 132 نقلا عن بصائر الدرجات: ص 406 و هو في مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 411 و الكافي: م 1 ص 499 - 498 و مدينة المعاجز: ص 540.

[32] كشف الغمة: ج 3 ص 188 و اعلام الوري: ص 343 و بحارالأنوار: ج 50 ص 138 نقلا عن مختار الخرائج و الجرائح: ص 238 و هو في مدينة المعاجز: ص 545 و مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 409 باختصار شي ء من آخره.

[33] بحارالأنوار: ج 50 ص 172 و مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 409 و مدينة المعاجز: ص 554.

[34] أبوهاشم الجعفري هو داود، بن القاسم، بن اسحاق، بن عبدالله، بن جعفر، بن أبي طالب عليهماالسلام، البغدادي الثقة. و كان عظيم المنزلة عند الأئمة عليهم السلام، عالي القدر. و هو من أصحاب الرضا، و الجواد، و الهادي، و العسكري، و الامام الحجة المنتظر عليهم السلام جميعا، و يكفيه بذلك توفيقا و شرفا و كرامة...

[35] اعلام الوري: ص 345 و بحارالأنوار: ج 50 ص 138 - 137 نقلا عن مختار الخرائج و الجرائح: ص 237 و هو في مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 409 و الأنوار البهية: ص 248 - 247 و مدينة المعاجز: ص 545.

[36] محمد: 25.

[37] الحج: 46.

[38] بحارالأنوار: ج 50 ص 129 نقلا عن أمالي الصدوق: ص 412 و هو في الأنوار البهية: ص 262 دون آخره.

[39] بحارالأنوار: ج 50 ص 130 - 129 و مدينة المعاجز: ص 555 و مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 417 مع زيادة بيت من الشعر، هو:



دخلنا كارهين لها، فلما

ألفناها خرجنا مكرهينا.

[40] بحارالأنوار: ج 50 ص 153.

[41] كشف الغمة: ج 3 ص 175 - 174 و بحارالأنوار: ج 50 ص 177 - 176 و مدينة المعاجز: ص 543.

[42] الكافي: م 1 ص 355 و بحارالأنوار: ج 50 ص 185 - 184 و مدينة المعاجز: ص 544.

[43] الكافي: م 1 ص 355 و بحارالأنوار: ج 50 ص 185 - 184 و مدينة المعاجز: ص 544.

[44] بحاالأنوار: ج 50 من ص 153 الي ص 155 نقلا عن مختار الخرائج و الجرائح: ص 211 و هو في مدينة المعاجز: ص 550.

[45] بحارالأنوار: ج 50 ص 130 و ص 131 نقلا عن بصائر الدرجات: ص 333 و هو في مدينة المعاجز: ص 554.

[46] كشف الغمة: ج 3 ص 179 و بحارالأنوار: ج 50 ص 130 نقلا عن بصائر الدرجات: ص 333 و أنظر مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 409 - 408.

[47] كشف الغمة: ج 3 ص 187 و اعلام الوري: ص 343 و بحارالأنوار: ج 50 ص 136 نقلا عن مختار الخرائج و الحرائج: ص 237 و هو في مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 408 و مدينة المعاجز: ص 545.

[48] الأنعام: 124.

[49] كشف الغمة: ج 3 ص 179 - 178 و بحارالأنوار: ج 50 ص 181 - 180.

[50] كشف الغمة: ج 3 ص 174 و ص 176 و بحارالأنوار: ج 50 ص 177.

[51] المصدر السابق.

[52] كشف الغمة: ج 3 ص 175 و ص 176 و بحارالأنوار: ج 50 ص 177.

[53] البقرة: 255.

[54] كشف الغمة: ج 3 ص 185 - 184.

[55] بحاراالأنوار: ج 50 ص 177 - 176 و كشف الغمة: ج 3 ص 175.

[56] سبأ: 3.

[57] بحارالأنوار: ج 50 ص 181 و كشف الغمة: ج 3 ص 179 تحف العقول: ص 483.

[58] مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 417 و بحارالأنوار: ج 50 ص 158 - 157 و مدينة المعاجز: ص 555.

[59] الأنوار البهية: ص 256 - 255 و كشف الغمة: ج 3 ص 165 - 164 و بحارالأنوار: ج 50 ص 175 و الصواعق المحرقة: ص 217 باختلاف يسير في اللفظ، و هو في حلية الأبرار: ج 2 ص 460 - 459.

[60] الأنوار البهية: ص 257 - 256.