بازگشت

سلوك الخلفاء


ان استمرار النضال و المعارضة من اهل بيت النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) للخلفاء الغاصبين الظالمين يعتبر من الصفحات الدموية المليئة بالفخر و الاعتزاز من تاريخ الاسلام و التشيع. فأئمتنا الكرام عليهم الصلاة و السلام كانوا مغضبين للحكام المستبدين و اذنابهم الظالمين بما يتميزون به من مواقف صلبة غير متخاذلة ازاء الظلم، و من مواقف شجاعة في الدفاع عن الحق و العدالة، و لما كان الخلفاء الغاصبون يعلمون ان أئمة الشيعة ينتهزون كل فرصة لهداية الناس و احقاق الحق و الدفاع عن المظلوم و الوقوف في وجه الظلم و الفساد فانهم كانوا يشعرون بالخطر الجسيم يهددهم من جانب هذه الجماعة التي كرست كل جهودها للهداية و الارشاد و الصمود.

و الخلفاء العباسيون - الذين حلوا محل الخلفاء الأمويين الظلمة بالتامر و الخداع و حكموا الناس باسم الخلافة الاسلامية - هم كأسلافهم الغاصبين لم يدخروا جهدا لقمع اهل بيت النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و تلويث سمعتهم، و حاولوا بكل ما أوتوا من قوة ان يشوهوا الصورة النقية لقادة المسلمين الحقيقيين و يسقطوهم عن منزلتهم الراقية، و استعملوا الدسائس المختلفة لابعاد اولئك الكرام



[ صفحه 6]



عن مقام قيادة الناس و محو حب الأمة لهم...

و حيل المأمون العباسي للوصول الي هذا الهدف و خططه الجهنمية لاظهار حكومة بمظهر الشرعية و القانونية و استلام منصب القيادة و اخفاء شمس الامامة، ليست مخفية علي المطلعين علي تاريخ الأئمة (عليهم السلام) و الخلفاء، و قد أشرنا الي بعض جوانب هذا الموضوع خلال دراستنا لحياة الامام الثامن و الامام التاسع عليهماالسلام.

فبعد المأمون استمرا لمعتصم العباسي في نفس تلك الخطط و المؤمرات التي كان ينفذها سلفه في اهل بيت النبوة و الامامة و من هنا فقد استقدم الامام الجواد عليه السلام من المدينة الي بغداد و جعله تحت المراقبة الشديدة ثم بالتالي أدي به الي القتل، و سجن أيضا بعض العلويين بذريعة انهم لم يرتدوا الملابس السوداء (و هي الملابس الرسمية للعباسيين) حتي ماتوا في السجن (أو قتلهم) [1] .

و قد مات المعتصم في سامراء عام (227) هجري، [2] ، فحل محله في الحكم ابنه الواثق، و اقتفي اثر ابيه المعتصم و عمه المأمون.

و كان الواثق مثل سائر الخلفاء المتظاهرين بالاسلام مرفها



[ صفحه 7]



و شرابا للخمر، و كان مفرطا في هذه المجالات بحيث كان يلجأ لتناول بعض العقاقير الخاصة لتوفر له امكانية الاستمرار في لذاته، و كانت هذه العقاقير هي التي أدت به في نهاية الأمر الي الموت [3] فمات في سامراء سنة (232) هجرية.

و سلوك الواثق مع العلويين لم يكن قاسيا و لهذا السبب تقاطر العلويون و آل ابي طالب علي سامراء في زمانه و اجتمعوا فيها و قد عاشوا في رفاه نسبي خلال تلك الفترة، و لكنهم تفرقوا خلال حكم المتوكل [4] .

و بعد الواثق جاء اخوه المتوكل و أصبح خليفة، و يعتبر من اكثر الحكام العباسيين انحطاطا و سقوطا و أشدهم جريمة، و قد عاصر الامام الهادي عليه السلام المتوكل اكثر من سائر الخلفاء العباسيين، و استمرت فترة معاصرته له اكثر من اربعة عشر عاما كانت هذه الفترة الطويلة من أصعب و أقسي السنين في حياة هذا الامام الكريم و اتباعه المخلصين، و ذلك لان المتوكل كان من اكثر خلفاء بني العباس كفرا و كان رجلا خبيثا و ساقطا، و كان قلبه مملوءا بالحقد و العداوة لأميرالمؤمنين علي عليه السلام و اهل بيته الكرام و شيعته، و قد واجه العلويون في ظل حكومته القتل أودس السم أوانهم فروا و تواروا عن الأنظار [5] .



[ صفحه 8]



و كان المتوكل يحث الناس - بواسطة نقل احلام له و رؤي كاذبة - علي اتباع «محمد بن ادريس الشافعي» الذي كان ميتا في زمانه [6] و كان هدفه من هذا هو صرف الناس عن اتباع الأئمة عليهم السلام. و في سنة (236) هجرية أمر بهدم قبر سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام و هدم ما حوله من الدور و ان يعمل مزارع، و منع الناس من زيارته، و خرب و بقي صحراء [7] .

و كان خائفا من ان يغدو قبر الامام الحسين (عليه السلام) قاعدة ضده، و من ان يصبح نضاله و استشهاده عليه السلام ملهما لتحرك و نهوض شعبي في مقابل ظلم خلافته، الا ان الشيعة و محبي سيد الشهداء لم يكفوا اطلاقا و تحت اي ظرف من الظروف عن زيارة تلك البقعة الطاهرة، حتي انه قد نقل ان المتوكل قد هدم ذلك القبر الشريف سبع عشرة مرة، و هدد الزائرين بمختلف التهديدات و جعل مخفرين للمراقبة في اطراف القبر، و مع كل هذه الجرائم فانه لم يفلح في صرف الناس عن زيارة سيد الشهداء، فقد تحمل الزائرون مختلف اصناف التعذيب و الايذاء و واصلوا الزيارة [8] و بعد قتل المتوكل عاد الشيعة بالتعاون مع العلويين لتعمير و اعادة بناء قبر



[ صفحه 9]



الامام الحسين عليه السلام [9] .

و قد أغضب المسلمين هدم قبر الامام الحسين عليه السلام، فراح أهل بغداد يكتبون الشعارات المضادة للمتوكل علي الجدران و في المساجد، و يهجونه بواسطة الشعر. و هذه الأبيات من الشعر من جملة الهجاء الذي قيل في ذلك الطاغية المستبد:



«بالله ان كانت أمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيها مظلوما



فلقد أتاه بنو أبيه بمثله

هذا لعمري قبره مهدوما



أسفوا علي ان لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما» [10] .



أجل ان الناس الذين لا تمتد أيديهم الي وسائل اعلام عصرهم و يرون المنابر و المساجد و الاجتماعات و الخطب في أيدي عملاء السلطة العباسية يعبرون عن غضبهم و اعتراضهم بهذه الصورة.

و قد استغل الشعراء الملتزمون الذين يشعرون بالمسؤولية مالديهم من فن و قريحة فأنشدوا قصائد ضد المتوكل و نبهوا الناس علي جرائم بني العباس، و في المقابل فان المتوكل لم يتورع عن ارتكاب اي جريمة في سبيل اسكات الأصوات المعترضة و المخالفة، و كان يقمع بعنف



[ صفحه 10]



العلماء و الشعراء و سائر الفئات التي عجز عن تطويعها و اخضاعها للتعاون معه و الاستسلام له و كان يعرضها للقتل بأفجع الصور.

فمثلا يعقوب بن السكيت - و هو شاعر و اديب شيعي مشهور بحيث يطلق عليه انه الامام في العربية - ندبه المتوكل الي تعليم ولديه: «المعتز» و «المؤيد»، فنظر المتوكل يوما الي ولديه و قال لابن السكيت: من احب اليك هما أو الحسن و الحسين؟ فقال ابن السكيت: قنبر - يعني مولي اميرالمؤمنين علي عليه السلام - خير منهما!

فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتي مات، و قيل أمر بسل لسانه فمات [11] (رضوان الله تعالي عليه).

و قد اطلق المتوكل يديه في نهب بيت مال المسلمين كسائر الخلفاء، و كان مسرفا كما كتب المؤرخون في تاريخ حياته، حيث بني القصور المتعددة و المتنوعة، و أنفق علي «برج المتوكل» - الذي لا يزال قائما اليوم في سامراء - مليونا و سبعائة الف دينار من الذهب!... [12] .

و من المؤلم حقا انه الي جانب هذا الاسراف و التبذير يعيش العلويون و أهل بيت النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) في ضيق و عسر بحيث ان «طائفة من النساء العلويات في المدينة ماكن يملكن



[ صفحه 11]



ملابس كاملة تتيسر فيها اقامة الصلاة و انما كان لديهن ثوب رث بال يتعاقبن عليه اثناء اداء الصلاة و يعتمدن في امرار المعاش علي الخياطة، و استمرت هذه العصوبة و الضيق معهن حتي مات المتوكل» [13] و حقد المتوكل و عداؤه لأميرالمؤمنين علي عليه السلام قد دفعه الي سقوط و رذالة لا تصدق، حيث كان المتوكل يأنس الي النواصب و اعداء أهل البيت و قد اصدر أوامره لأحد المضحكين و المثرثرين ان يسخر و يستهزأ في مجلسه بأميرالمؤمنين (عليه السلام) بصورة مخجلة، و المتوكل يتفرج علي طريقة ادائه و اطواره و يشرب الخمر و يقهقه قهقهة السكاري! [14] .

و صدور مثل هذه الأعمال من المتوكل ليس بالأمر العجيب و انما الغريب و المؤلم هو وضع الذين ينصبون أمثال هذه الخنازير المنحطة الوسخة حكاما و يعدونهم خلفاء للنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و من جملة اولي الأمر للمسلمين، و يشيحون بوجوههم عن الاسلام الحقيقي و اهل بيت نبيه الطاهرين و يتبعون أمثال هؤلاء الخلفاء! أسفا علي الانسان كيف ينحدر في الضلال الي هذه المستويات.

أجل ان جنون المتوكل في الايذاء و الجريمة قد بلغ الذروة حتي انه في بعض الأحيان كان هو بنفسه يعترف بذلك!

يقول الفتح بن خاقان - و هو وزيره -:



[ صفحه 12]



دخلت يوما علي المتوكل فرأيته مطرقا متفكرا فقلت: يا اميرالمؤمنين! ما هذا الفكر؟ فوالله ما علي ظهر الأرض أطيب منك عيشا و لا أنعم منك بالا. فقال: يا فتح أطيب عيشا مني رجل له دار واسعة و زوجة صالحة و معيشة حاضرة لا يعرفنا فنؤذيه و لا يحتاج الينا فنزدريه...!! [15] .

و قد بلغ ايذاء المتوكل و تعذبيه لأهل بيت النبي (صلي الله عليه و اله و سلم) الي الحد الذي كان يعذب فيه الناس و يعاقبهم بذنب المحبة و الاتباع للأئمة الكرام، و لهذا فقد أصبح الأمر صعبا جدا علي اهل بيت الطهارة.

و عين المتوكل عمر بن فرح الرخجي واليا علي مكة و المدينة، و كان يكف الناس عن الاحسان الي آل ابي طالب و يتشدد كثيرا في هذا الأمر فامتنع الناس خوفا علي أنفسهم عن بذل الرعاية و الحماية للعلويين و أمست الحياة صعبة جدا علي أهل بيت أميرالمؤمنين علي عليه السلام... [16] .


پاورقي

[1] مقاتل الطالبيين ص 589.

[2] المختصر في أخبار البشر ج 1 ص 34.

[3] تتمة المنتهي ص 231 - 229.

[4] مقاتل الطالبيين ص 593.

[5] مقاتل الطالبيين ص 632 - 597.

[6] تاريخ الخلفاء ص 352 - 351.

[7] تاريخ الخلفاء ص 347.

[8] مقاتل الطالبيين ص 599 - 597- تتمة المنتهي ص 240 فما بعد.

[9] مقاتل الطالبيين ص 599.

[10] تاريخ الخلفاء ص 347.

[11] تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 348 - تتمة المختصر في اخبار البشر ج 1 ص 342 - المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 41 (و هناك اقوال اخري مذكورة في كيفية استشهاده).

[12] تاريخ اليعقوبي ص 491.

[13] تتمة المنتهي ص 238.

[14] تتمة المختصر في أخبار البشر ج 1 ص 338.

[15] تاريخ الخلفاء ص 353.

[16] تتمة المنتهي ص 238.