ادلة الأمر بين الأمرين
و هذا القول بين القولين ليس بجبر و لا تفويض، و بذلك أخبر أميرالمؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم و يقعد و يفعل.
فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام: «سألت عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع
[ صفحه 220]
الله» فسكت عباية، فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام: «قل يا عباية».
قال: و ما أقول؟
قال عليه السلام: «ان قلت: انك تملكها مع الله قتلتك، و ان قلت: تملكها دون الله قتلتك».
قال عباية: فما أقول يا أميرالمؤمنين؟
قال عليه السلام: «تقول انك تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فان يملكها اياك كان ذلك من عطائه، و ان يسلبكها كان ذلك من بلائه، هو المالك لما ملكك، و القادر علي ما عليه أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول و القوة حين يقولون: لا حول و لا قوة الا بالله؟».
قال عباية: و ما تأويلها يا أميرالمؤمنين؟
قال عليه السلام: لا حول عن معاصي الله الا بعصمة الله، و لا قوة لنا علي طاعة الله الا بعون الله، قال: فوثب عباية فقبل يديه و رجليه.
و روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام حين أتاه نجدة [1] يسأله عن معرفة الله، قال: يا أميرالمؤمنين، بماذا عرفت ربك؟
قال عليه السلام: «بالتمييز الذي خولني، و العقل الذي دلني».
قال: أفمجبول أنت عليه؟
قال: «لو كنت مجبولا ما كنت محمودا علي احسان، و لا مذموما علي اساءة، و كان المحسن أولي بالملامة من المسي ء، فعلمت أن الله قائم باق، و ما دونه حدث حائل زائل، و ليس القديم الباقي كالحدث الزائل».
[ صفحه 221]
قال نجدة: أجدك أصبحت حكيما يا أميرالمؤمنين.
قال عليه السلام: «أصبحت مخيرا؛ فان أتيت السيئة بمكان الحسنة فأنا المعاقب عليها».
و روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام، فقال: يا أميرالمؤمنين، أخبرنا عن خروجنا الي الشام بقضاء و قدر؟
قال عليه السلام: «نعم يا شيخ، ما علوتم تلعة [2] ، و لا هبطتم واديا الا بقضاء و قدر من الله».
فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين.
فقال عليه السلام: مه يا شيخ، فان الله قد عظم أجركم في مسيركم و أنتم سائرون، و في مقامكم و أنتم مقيمون، و في انصرافكم و أنتم منصرفون، و لم تكونوا في شي ء من اموركم مكرهين، و لا اليه مضطرين، لعلك ظننت أنه قضاء حتم و قدر لازم، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب و العقاب، و لسقط الوعد و الوعيد، و لما الزمت الأشياء [3] أهلها علي الحقائق، ذلك مقالة عبدة الأوثان و أولياء الشيطان، ان الله جل و عز أمر تخييرا، و نهي تحذيرا، و لم يطع مكرها، و لم يعص مغلوبا، و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا «ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار».
فقام الشيخ فقبل رأس أميرالمؤمنين عليه السلام، و أنشأ يقول:
أنت الامام الذي نرجو بطاعته
يوم النجاة من الرحمن غفرانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا
جزاك ربك عنا فيه رضوانا
[ صفحه 222]
فليس معذرة في فعل فاحشة
قد كنت راكبها ظلما و عصيانا [4] .
فقد دل أميرالمؤمنين عليه السلام علي موافقة الكتاب، و نفي الجبر و التفويض اللذين يلزمان من دان بهما و تقلدهما الباطل و الكفر و تكذيب الكتاب، و نعوذ بالله من الضلالة و الكفر، و لسنا ندين بجبر و لا تفويض، لكنا نقول بمنزلة بين المنزلتين، و هو الامتحان و الاختيار بالاستطاعة التي ملكنا الله و تعبدنا بها، علي ما شهد به الكتاب، و دان به الأئمة الأبرار من آل الرسول صلوات الله عليهم.
پاورقي
[1] هو نجدة الحروري، الذي صار من الخوارج في ما بعد.
[2] التلعة: ما علا من الأرض.
[3] في نسخة: الأسماء.
[4] في نسخة: عندي لراكبها ظلما و عصيانا.