بازگشت

الرواية الثالثة


و قال سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص قال علماء السير: انما أشخصه (امر بمجيئه) المتوكل من المدينة الي بغداد «لان المتوكل كان يبغض عليا و ذريته فبلغه مقام علي الهادي بالمدينة و ميل الناس اليه فخاف منه»، فدعي يحيي بن هرثمة و قال: اذهب الي المدينة «و انظر في حاله و اشخصه الينا». قال يحيي فذهبت الي المدينة فلما دخلتها «ضج اهلها ضجيجا عظيما ما سمع الناس بمثله خوفا علي علي و قامت الدنيا علي ساق» لانه كان محسنا اليهم ملازما للمسجد و لم يكن عنده ميل الي الدنيا»، فجعلت اسكنهم و احلف لهم «اني لم اؤمر فيه بمكروه» و انه لا بأس عليه، ثم فتشت منزله فلم اجد فيه الا مصاحف و ادعية و كتب العلم» فعظم في عيني و توليت خدمتي بنفسي و احسنت عشرته. فلما قدمت به بغداد، بدأت باسحاق بن ابراهيم الطاهري و كان واليا علي بغداد، فقال لي: يا يحيي ان هذا الرجل قد ولده رسول الله و المتوكل من تعلم فان حرضته بمليه قتله، و كان رسول الله خصمك يوم القيامة، فقلت له: و الله ما وقعت منه الا علي كل امر جميل ثم صرت به الي سر من رأي فبدأت بوصيف التركي فأخبرته بوصوله فقال و الله لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك قال: فتعجبت، كيف وافق قوله قول اسحاق، فلما دخلت علي المتوكل سألني عنه، فاخبرته «بحسن سيرته و سلامة طريقه و ورعه و زهادته»، «و اني فتشت داره فلم اجد فيها غير المصاحف و كتب العلم، و ان اهل المدينة خافوا عليه فأكرمه المتوكل و احسن جايزته و اجزل بره و انزله



[ صفحه 27]



معه سر من رأي (سامراء) [1] .

لاحظوا في هذه الرواية ما يلي: -

أولا: ان شخوص الامام (ع) لم يكن بمحض ارادته، و انما بامر من المتوكل «انما اشخصه»، الامر الذي يبين لنا ردود فعل المتوكل من الكتب - التقارير -المتتابعة و المتواليه التي يرسلها ولاته.

ثانيا: هذه الرواية تبرز سببا آخرا يضاف الي الاسباب المتقدمه في الروايات الاخري، و هو: البغض الدفين الذي يكنه المتوكل للامام علي بن ابي طالب (ع) و ذريته.

ان المتوكل يحاول ان يفرغ بغضه المخزون في صدره في بعض المواقف المناسبة التي تتاح له، فها نحن نراه عندما دخل عليه رجل من اولاد محمد ابن الحنفية، و دارت بينهما مناقشة فضح فيها الحنفي اعمال المتوكل و عري وجهها الزائف... حينذاك التفت المتوكل الي الفتح (رئيس الوزراء) و قال: اما تري ما نلقاه من آل ابي طالب؟ اما حسني يجذب الي نفسه تاج عز نقله الله الينا قبله، او حسيني يسعي في نقض ما انزل الله الينا قبله، او حنفي يدل بجهله اسيافنا علي سفك دمه. [2] .

و نتساءل هنا: لماذا يبغض المتوكل العباسي الامام علي (ع) و ذريته



[ صفحه 28]



المتعاقبة؟

و الجواب في النقاط التالية: -

أولا -: ان المتوكل يبغض الامام (ع) لانه، هو الذي اسس الحركة الرسالية بتفاصيلها التنظيمية و القيادية.

ثانيا: - ان قيادة الثورات و الانتفاضات معظمها - كما قلنا سابقا - تنسب الي الامام علي (ع).

ثالثا: - احساس و شعور المتوكل بعدم شرعيته القيادية للامة الاسلامية... «أما حسني يجذب الي نفسه تاج عز نقله الله الينا قبله...».

رابعا: - الشرعية القيادية للامة الاسلامية التي يتمتع بها ذرية آل ابي طالب (ع)، فهم كما جاء في زيارة الجامعة علي لسان الامام الهادي(ع):

«... قادة الامم [3] ... وساسة العباد و اركان البلاد... و امناء الرحمن و سلالة النبيين... و حجج الله علي اهل الدنيا و الآخرة و الاولي...» و هم أيضا: «الائمة الهداة، و القادة الهداة، و السادة الولاة، و الذاذة الحماة، و أهل الذكر و اولي الامر، و بقية الله، و خيرته، و حزبه... و رضيكم خلفاء



[ صفحه 29]



في ارضه و حججا علي بريته و انصاره لدينه، و حفظة لسره.. و شهداء علي خلقه، و اعلاما لعباده، و منارا في بلاده، و ادلاء علي صراطه... فالراغب عنكم مارق، و اللازم لكم لاحق، و المقصر في حقكم زاهق، و الحق معكم و فيكم و منكم و اليكم و انتم اهله، و معدنه، و مأواه، و منتهاه، و ميراث النبوة عندكم... من ولاكم فقد والي الله، و من عاداكم فقد عادي الله، و من احبكم فقد احب الله، و من ابغضكم فقد ابغض الله... و من خالفكم، فالنار مثواه، و من جحدكم كافر، و من حاربكم مشرك و من رد عليكم فهو في اسفل درك في الجحيم... مبغض لاعدائكم و معاد لهم، سلم لمن سالمكم، و حرب لمن حاربكم محقق لما حققتم، مبطل لما ابطلتم.. منتظر لامركم (ثورتكم) مرتقب لدولتكم، آخذ بقولكم، عامل بامركم.. فمعكم معكم لامع عدوكم (الطغاة و من ضمنهم المتوكل)، آمنت بكم و توليت آخر كم بما توليت به اولكم، و برئت الي الله عزوجل من اعدائكم و من الجبت و الطاغوت و الشياطين و حزبهم الظالمين لكم، و الجاحدين لحقكم، و المارقين من ولايتكم، و الغاصبين لارثكم... و من الائمة الذين يدعون الي النار... من اطاعكم فقد اطاع الله، و من عصاكم فقد عصي الله، و من احبكم فقد احب الله و من ابغضكم فقد ابغض الله...». [4] .

لقد كانت ردود الفعل ازاء هذه الزيارة عنيفة و تعسفية لما تحويه من حقائق و مواقف ثابتة و صريحة و معادية للسلطة العباسية، لذا فقد صدر



[ صفحه 30]



المتوكل اوامره، بمنع زيارة الامام الحسين (ع)، و التنكيل بمن يحاولون زيارته، و قام - ايضا - بحرث قبر الامام الحسين (ع) و اغرقه بالماء ثم زرعه.

خامسا: - ضعف السلطة العباسية امام الولاء الجماهيري لقيادة الحركة الرسالية. «فجعلت اسكنهم و احلف لهم اني لم أؤمر فيه بمكروه و انه لا بأس عليه».

كما ان هذه الرواية تطالعنا عن اشياء اخري لم ترد في الروايات السابقة الذكر، و ابرز - تلك الاشياء - التهم التي يشير لها الولاة في رسائلهم... فما هي تلك التهم؟ و ما هي المهمة الموكلة الجاسوس المتوكل؟

من الواضح جدا، ان التهمة كانت حيازة السلاح، و وجود الاموال الطائلة، التي تدعم و تمول شراء الاسلحة، و تسهل عملية تنفيذ المخططات الثورية... كما ان هذه الاموال تجعل الناس في غني عن الدولة، و ذلك عندما تسخر في حل مشاكلهم و مصاعبهم...

أما المهمة الموكلة الجاسوس السلطة (هرثمة) فانها تتلخص في نقطتين:

1 / تفتيش منزل الامام (ع)، و التأكد من صحة التقارير المرفوعة الي المتوكل. «و انظر في حاله.... و اني فتشت داره فلم اجد فيها غير المصاحف و كتب اهل العلم».

2 / جس نبض الجماهير الموالية و المؤيدة للامام (ع)، حيث ظهر ذلك



[ صفحه 31]



جليا من مظاهرات الاحتجاج و الشجب و التنديد باعمال و مخططات السلطة. «ضج اهلها ضجيجا عظيما ما سمع الناس بمثله خوفا علي علي و قامت الدنيا علي ساق... و ان اهل المدينة خافوا عليه...».

و لكن، ما هي العوامل التي كسب بها الامام (ع) ولاء الجماهير؟

علي غرار الرواية نستشف منها ما يلي: -

أ / الاحسان الي الجماهير، و المثل يقول: «سيد القوم خادمهم» و الامام علي (ع) يقول: «أحسن الي من شئت تكن أميره».

ب / العبادة المتواصلة، و علي العكس من ذلك أقطاب النظام، حيث يقبعون في قصورهم، و يسهرون في الغناء و شرب الخمر...

ج / الزهد في الدنيا... حيث بساطة العيش في أوساط الجماهير.

و يبقي سؤال واحد و هو: كيف تصرف الامام ازاء هذه التهم و الافتراءات الباطلة؟

نوجز الاجابة علي هذا السؤال في نقطتين و هما: -

1 / تكذيب تلك السعايات و الوشايات، و نفي صحتها اطلاقا... «يقول الشيخ المفيد في كتابه الارشاد»: و لما سعي و الي المدينة عبدالله بن محمد بابي الحسن (ع) الي المتوكل و كان يقصده بالاذي، و بلغ اباالحسن



[ صفحه 32]



سعايته به، فكتب الي المتوكل يذكر تحامل عبدالله بن محمد عليه، كذبه فيما سعي به، فتقدم المتوكل باجباته عن كتابه و دعائه فيه الي حضور العسكر علي جميل من الفعل و القول. [5] .

و هنا نلاحظ، في كتاب المتوكل المرسل الي الامام (ع) سياسة الاحتواء، الي درجة ان المتوكل قام بعزل و الي المدينة ابتغاء مرضاة الامام (ع)، و عدم سخطه، و جعله بالتالي ترسا في ماكنة النظام. [6] .

2 / محاولة كسب الأعداء.

لقد أظهر الامام (ع) براءته، و ابدي مظلوميته، و استغلها ليس فقط في ترسيخ جذور حبه في قلوب الجماهير، بل و كسب الاعداء أيضا. [7]

و هذا الاسلوب انتهجه قبله الامام زين العابدين (ع). [8] .

و دعنا نري من الرواية فاعلية هذا الاسلوب: -

يقول هرثمة: «ثم فتشت منزله فلم اجد فيه الا مصاحف و ادعية



[ صفحه 33]



و كتب العلم فعظم في عيني و توليت خدمته بنفسي و احسنت عشرته».

و ماذا عن تأثيره علي والي بغداد اسحاق بن ابراهيم الطاهري؟ يقول الوالي: «فقال لي يا يحيي ان هذا الرجل قد ولده رسول الله و المتوكل من تعلم (سفاح) فان حرضته عليه قتله و كان رسول الله خصمك يوم القيامة. فقلت له - أي هرثمة - و الله ما وقفت الا علي كل امر جميل».

و لما اخبر هرثمة وصيف التركي بوصوله قال: و الله لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك، قال: فتعجبت كيف و افق قوله قول اسحاق».


پاورقي

[1] تذكرة الخواص ص 359.

[2] بحارالأنوار ج 5 ص 213.

[3] الحركة الرسالية: حركة أممية تشمل المسلمين خاصة و المستضعفين عامة.

[4] للمزيد يراجع ضياء الصالحين ص 389.

[5] الارشاد للشيخ المفيد ص 333.

[6] انظر المصدر السابق ص 333.

[7] انظر هذا الاسلوب واضحا و متبلورا في موقف الامام (ع) من سعاية البطحائي.. بحارالأنوار ج 5 ص 199.

[8] انظر أحاديث الثورة رقم) 1 (استراتيجية الامام زين العابدين (ع) للشيخ أبي محمد.