بازگشت

مع المتوكل العباسي


عاصر الامام الهادي عليه السلام ستة من خلفاء بني العباس و أشد دور مر عليه هو دور المتوكل العباسي، فهو كيزيد بن معاوية في بني أمية.

ان أول عمل قام به ازاء الامام الهادي عليه السلام هو حمله من مدينة جده الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم و اسكانه في (سر من رأي) علي غير رغبة منه عليه السلام.

ان الأربعة عشر عاماً التي عاشها الامام عليه السلام من حكم المتوكل كانت أشد سنين مرت عليه. جرعه فيها صنوف الأذي و المحن.

و نحن نقتصر علي ذكر حادثة واحدة وقعت للامام عليه السلام ذكرها جل من ترجم له عليه السلام.

سعي بأبي الحسن علي بن محمد الهادي عليه السلام الي المتوكل و قيل له: ان في منزله سلاحاً و كتباً و غيرها من شيعته، فوجه اليه ليلاً من الأتراك و غيرهم من هجم عليه في منزله، علي غفلة ممن في داره، فوجدوه في بيت وحده مغلق عليه، و عليه مدرعة من شعر، و لا بساط في البيت الا الرمل و الحصي، و علي رأسه ملحفة من الصوف متوجهاً الي ربه يترنم بآيات من القرآن في الوعد و الوعيد [1] .

فأخذ علي ما وجد عليه، و حمل الي المتوكل في جوف الليل فمثل بين يديه و المتوكل يشرب و في يده الكأس، فلما رآه أعظمه و أجلسه الي جنبه و لم يكن في



[ صفحه 243]



منزله شي ء مما قيل عنه، و لا حالة يتعلل عليه بها، فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال: يا أميرالمؤمنين ما خامر لحمي و دمي قط فاعفني منه.

فأعفاه و قال: أنشدني شعرا أستحسنه.

فقال: اني لقليل الرواية للاشعار.

فقال: لابد أن تنشدني فأنشده:



باتوا علي قلل الأجبال تحرسهم++

غلب الرجال فما أغنتم القلل



و استنزلوا من بعد عز عن معاقلهم ++

فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا



ناداهم صارخ من بعد ما قبروا++

أين الأسرة و التيجان و الحلل



أين الوجوه التي كانت منعمة++

من دونها تضرب الأستار و الكلل



فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ++

تلك الوجوه عليها الدود يقتتل



قد طالما أكلوا دهرا و قد شربوا++

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا



و طالما عمروا دورا لتحصنهم ++

ففارقوا الدور و الأهلين و انتقلوا



و طالما كنزوا الأموال و ادخروا++

فخلفوها علي الأعداء و ارتحلوا



أضحت منازلهم قفراً معطلة++

و ساكنوها علي الأجداث قد رحلوا



قال: فأشفق كل من حضر علي علي وظن أن بادرة تبدر منه اليه.

قال: والله لقد بكي المتوكل بكاءاً طويلاً حتي بلت دموعه لحيته، و بكي من حضر، ثم أمر برفع الشراب، ثم قال له: يا أباالحسن أعليك دين؟

قال: نعم، أربعة آلاف دينار.

فأمر بدفعها اليه، و رده الي منزله من ساعته مكرماً [2] .



[ صفحه 244]



هذه الحادثة يذكرها أكثر أهل التاريخ و السير و التراجم و يمكننا أن نشير الي خمسين مصدراً و قد تركنا كلمات بعض الأعلام في الامام عليه السلام تهرباً من تكرارهم هذه القصة.

و الذي أريد أن أسجله في هذا الفصل: أن من درس التاريخ يجد الأئمة عليهم السلام جميعهم كان ديدنهم العبادة و التهجد و قد أوقفناك في هذه السلسلة علي بعض ما ذكروه من عبادتهم و أورادهم و قراءتهم للقرآن.

كما أن المتوكل العباسي لم يكن الأول و الآخر في سلوكه هذا المسلك، فهذا التاريخ مملوء بذكر مجون من تقدمه أو تأخر عنه من الخلفاء.



تتلي التلاوة في أبياتهم سحرا++

و في بيوتكم الأوتار و النغم



فكانت أموال المسلمين تصرف علي القيان و المخنثين و الشراب، و كانت همة كل واحد منهم أن يجمع حوله بطانة من المغنين، و أراذل الناس، يقضي معهم لياليه الحمراء.

و اذا تأملت نصيحة الامام الجواد عليه السلام للمأمون العباسي، في ترك الشراب المسكر [3] تعرف مدي ما وصل اليه هؤلاء من ارتكاب الجرائم و الاستهتار، فالمأمون - مع جلالته من بين الخلفاء و تميزه من بينهم بالعلم و المعرفة - لا يتورع من الشراب المسكر فما هو ديدن غيره؟

ولو لم تكن هناك نصوص علي الأئمة عليهم السلام، و لم ترد فيهم أحاديث الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم و لم يكونوا الثقل الذي تركه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عليه و آله بين ظهراني الأمة، لو لم يكن كل هذا أو ذاك، لكانوا أحق من غيرهم بالخلافة لورعهم، و تقاهم، و علمهم، و شرفهم، و ما اتصفوا به من فضائل.

و أعجب من هذا أن يترك شطر كبير من المسلمين أئمة أهل البيت عليهم السلام، و يستبدلوا بهم غيرهم من هم أقل منهم علماً و عملاً، و دونهم تقي و شرفاً، و أبعد من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم نسباً و رحماً (أتستبدلون الذي هو أدني بالذي هو خير).



[ صفحه 245]




پاورقي

[1] قال ابن الساعي في مختصر أخبار الخلفاء: كان عليه السلام يقرأ في تلك الساعة (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا و عملوا الصلحت سوآء محيهم و مماتهم سآء ما يحكمون).

[2] مروج الذهب 4 / 94. الدمعة الساكبة 3 / 142. الأنوار البهية 148. جوهرة الكلام 152.

عقيدة الشيعة 216. مرآة الجنان 2 / 160. وفيات الأعيان 1 / 322. نور الأبصار للحائري 278. الأئمة الاثناعشر لمحمد بن طولون 108. البداية و النهاية 11 / 15. نزهة الجليس 2 / 131. نور الأبصار للشبلنجي 150. تذكرة الخواص 203. مختصر أخبار الخلفاء 61. منهاج السنة 2 / 129. بحارالأنوار 12 / 149. أعيان الشيعة 4 ق 2 / 181. مآثر الكبراء 3 / 110. سفينة البحار 2 / 241. وفاة الامام علي الهادي عليه السلام 57.

[3] أنظر الفصل التاسع من هذا الكتاب ص 199.