بازگشت

رسالة الامام في القضاء و القدر


قال ابن شعبة الحراني: و روي عن الامام الراشد الصابر أبي الحسن علي بن



[ صفحه 266]



محمد عليهماالسلام في طوال هذه المعاني رسالته عليه السلام في الرد علي أهل الجبر و التفويض و اثبات العدل و المنزلة بين المنزلتين: من علي بن محمد، سلام عليكم و علي من اتبع الهدي و رحمة الله و بركاته، فانه ورد علي كتابكم و فهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم و خوضكم في القدر و مقالة من يقول منكم بالجبر و من يقول بالتفويض و تفرقكم في ذلك و تقاطعكم و ما ظهر من العداوة بنيكم، ثم سألتموني عنه و بيانه لكم و فهمت ذلك كله. اعلموا رحمكم الله انا نظرنا في الآثار و كثرة ما جات به الأخبار فوجدناها عند جميع من ينتحل الاسلام ممن يعقل عن الله جل و عز لا تخلو من معنيين: اما حق فيتبع و اما باطل فيجتنب. و قد اجتمعت الامة قاطبة لا اختلاف بينهم أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق، و في حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب و تحقيقه مصيبون مهتدون، و ذلك يقول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: لا تجمع امتي علي ضلالة، فأجبر أن جميع ما اجتمعت عليه الامه كلها حق، هذا اذا لم يخالف بعضها بعضا. و القرآن حق لا اختلاف بينهم في تنزيله و تصديقه، فاذا شهد القرآن بتصديق خبر و تحقيقه و أنكر الخبر طائفة من الامة، لزمهم الاقرار به ضرورة حين اجتمعت في الأصل علي تصديق الكتاب، فان هي جحدت و أنكرت لزمها الخروج من الملة.

فأول خبر يعرف تحقيقه من الكتاب و تصديقه و التماس شهادته عليه خبر ورد عن رسول الله صلي الله عليه و آله و وجد بموافقة الكتاب و تصديقه بحيث لا تخالفه أقاويلهم، حيث قال: اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي - أهل بيتي - لن تضلوا ما تمسكتم بهما و انهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض.

فلما وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب الله نصا، مثل قوله جل و عز: انما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون و من يتول الله



[ صفحه 267]



و رسوله و الذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون. [1] و روت العامة في ذلك أخبارا لأميرالمؤمنين عليه السلام أنه تصدق بخاتمه و هو راكع فشكر الله ذلك له أنزل الآية فيه.

فوجدنا رسول الله صلي الله عليه و آله قد أتي بقوله: من كنت مولاه فعلي مولاه و بقوله: انت مني بمنزلة هارون من موسي، الا أنه لا نبي بعدي، و وجدناه يقول: علي يقضي ديني و ينجز موعدي و هو خليفتي عليكم من بعدي.

فالخبر الأول الذي منه هذه الأخبار خبر صحيح مجمع عليه لا اختلاف فيه عندهم، و هو أيضا موافق للكتاب، فلما شهد الكتاب بتصديق الخبر و هذه الشواهد الاخر لزم علي الامة الاقرار بها ضرورة اذ كانت هذه الأخبار شواهدها من القرآن ناطقة و وافقت القرآن و القرآن وافقها.

ثم وردت حقائق الأخبار من رسول الله صلي الله عليه و آله عن الصادقين عليهم السلام و نقلها قوم ثقات معروفون، فصار الاقتداء بهذه الأخبار فرضا واجبا علي كل مؤمن و مؤمنة، لا يتعداه أهل العناد. و ذلك أن أقاويل آل رسول الله صلي الله عليه و آله متصلة بقول الله و ذلك مثل قوله في محكم كتابه: ان الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا» [2] و وجدنا نظير هذه الآية، قول رسول الله صلي الله عليه و آله من أذي عليا فقد أذاني و من أذاني فقد أذي الله و من أذي الله يوشك أن ينتقم منه.

و كذلك قوله صلي الله عليه و آله: من أحب عليا فقد أحبني من أحبني فقد أحب الله».

و مثل قوله صلي الله عليه و آله في بني وليعة: لا بعثن اليهم رجلا كنفسي يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله، قم يا علي فسر اليهم و قوله صلي الله عليه و آله يوم خيبر لأبعثن اليهم غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتي يفتح الله عليه.

فقضي رسول الله صلي الله عليه و آله بالفتح قبل التوجيه فاستشرف لكلامه أصحاب



[ صفحه 268]



رسول الله صلي الله عليه و آله فلما كان من الغد دعا عليا عليه السلام، فبعثه اليهم فاصطفاه بهذه المنقبة، و سماه كرارا غير فرار، فسماه محبا لله و لرسوله، فأخبر أن الله و رسوله يحبانه. و انما قدمنا هذا الشرح و البيان دليلا علي ما أردنا و قوة لما نحن مبينوه من أمر الجبر التفويض و المنزلة بين المنزلتين و بالله العون و القوة و عليه نتوكل في جميع امورنا فانا نبدأ من ذلك بقول الصادق عليه السلام: لا جبر و لا تفويض ولكن منزلة بين المنزلتين، و هي صحة الخلقة و تخلية السرب و المهلة في الوقت، و الزاد في مثل الراحلة و السبب المهيج للفاعل علي فعله»

فهذه خمسة أشياء جمع به الصادق عليه السلام جوامع الفضل، فاذا نقض العبد منها خلة كان العمل عنه مطروحا بحسبه.

فأخبر الصادق عليه السلام بأصل ما يجب علي الناس من طلب معرفته و نطق الكتاب بتصديقه فشهد بذلك محكمات آيات رسوله لأن الرسول صلي الله عليه و آله، و آله عليهم السلام لا يعد و شي ء من قوله و أقاويلهم حدود القرآن، فاذا وردت حقائق الأخبار و التمست شواهدها من التنزيل فوجد لها موافقا و عليها دليلا، كان الاقتداء بها فرضا لا يتعداه الا أهل العناء كما ذكرنا في أول الكتاب. و لما التمسنا تحقيق ما قاله الصادق عليه السلام من المنزلة بين المنزلتين و انكاره الجبر و التفويض، وجدنا الكتاب قد شهد له و صدق مقالته في هذا، و خبر عنه أيضا موافق لهذا: أن الصادق عليه السلام سئل هل أجبر الله العباد علي المعاصي؟

فقال الصادق عليه السلام: هو أعدل من ذلك.

فقيل له: فهل فوض اليهم؟

فقال: هو أعز و أقهر لهم من ذلك.

و روي عنه أنه قال: الناس في القدر علي ثلاثة أوجه، رجل يزعم أن الأمر مفوض اليه فقد وهن الله في سلطانه فهو هالك. و رجل يزعم أن الله جل و عز أجبر



[ صفحه 269]



العباد علي المعاصي و كلفهم ما لا يطيقون، فقد ظلم الله في حكمه فهو هالك، و رجل يزعم أن الله كلف العباد ما يطيقون و لم يكلفهم ما لا يطيقون، فاذا أحسن حمد الله و اذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ، فأخبر عليه السلام أن من تقلد الجبر و التفويض و دان بهما فهو علي خلاف الحق. فقد شرحت الجبر الذي من دان به يلزمه الخطأ، و أن الذي يتقلد التفويض يلزمه الباطل، فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما.

ثم قال عليه السلام: و أضرب لكل باب من هذه الأبواب مثلا يقرب المعني للطالب و يسهل له البحث عن شرحه، تشهد به محكمات آيات الكتاب و تحقق تصديقه عند ذوي الألباب و بالله التوفيق و العصمة.

فاما الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهو قول من زعم أن الله جل و عز أجبر العباد علي المعاصي و عاقبهم عليها، و من قاله: بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه و كذبه ورد قوله: و لا يظلم ربك أحدا «و قوله ذلك بما قدمت يداك و أن الله ليس بظلام للعبيد» [3] مع آي كثيرة في ذكر هذا. فمن زعم أنه مجبر علي المعاصي فقد أحال بذنبه علي الله و قد ظلمه في عقوبته.

و من ظلم الله فقد كذب كتابه و من كذب كتابه فقد لزمه الكفر باجتماع الأمة، و مثل ذلك مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك نفسه و لا يملك عرضا من عرض الدنيا و يعلم مولاه ذلك منه فأمر علي علم منه بالمصير الي السوق لحاجة يأتيه بها و لم يملكه ثمن ما يأتيه به من حاجته، و علم المالك أن علي الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه الا بما يرضي به من الثمن، و قد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل و النصفة و اظهار الحكمة و نفي الجور و أوعد عبده ان لم يأته بحاحته أن يعاقبه علي علم منه بالرقيب الذي علي حاجته أنه سيمنعه، و علم أن المملوك



[ صفحه 270]



لا يملك ثمنها و لم يملكه ذلك، فلما صار العبد الي السوق و جاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولي لها، وجد عليها مانعا ألا بشراء و ليس يملك العبد ثمنها، فانصرف الي مولاه خائبا بغير قضاء حاجته فاغتاظ مولاه من ذلك و عاقبه عليه، أليس يجب في عدله و حكمه أن لا يعاقبه و هو يعلم أن عبده لا يملك عرضا من عروض الدنيا و لم يملكه ثمن حاجته، فان عاقبه ظالما متعديا عليه مبطلا لما وصف من عدله و حكمته و نصفته، و ان لم يعاقبه كذب نفسه في وعيده اياه حين أوعده بالكذب و الظلم اللذين ينفيان العدل و الحكمة تعالي الله عما يقولون علوا كبيرا، فمن دان بالجبر أو بما يدعو الي الجبر فقد ظلم الله و نسبه الي الجور و العدوان. اذا أوجب علي من أجبره العقوبة، و من زعم أن الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب، فقد كذب الله في وعيده حيث يقول: بلي من كسب سيئة و أحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون». [4] .

و قوله: «ان الذين يأكلون أموال اليتامي ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا» [5] و قوله: «ان الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلنا هم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ان الله كان عزيزا حكيما». [6] مع آي كثيرة في هذا الفن ممن كذب وعيد الله و يلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر و هو ممن قال الله: «أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحيوة الدنيا و يوم القيامة يردون الي أشد العذاب و ما الله بغافل عما تعلمون» [7] بل تقول: ان الله جل و عز جازي العباد علي أعمالهم و يعاقبهم علي أفعالهم بالاستطاعة التي ملكهم اياها، فأمرهم و نهاهم بذلك و نطق كتابه: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و من



[ صفحه 271]



جاء بالسيئة فلا يجزي الا مثلها و هم لا يظلمون» [8] و قال جل ذكره: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا و يحذركم الله نفسه» [9] و قال: اليوم تجزي كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم» [10] فهذه آيات محكمات تنفي الجبر و من دان به و مثلها في القرآن كثير، اختصرنا ذلك لئلا يطول الكتاب و بالله التوفيق.

و أما التفويض الذي أبطله الصادق عليه السلام و أخطأ من دان به و تقلده فهو قول القائل: ان الله جل ذكره فوض الي العباد اختبار أمره و نهيه و أهملهم. و في هذا كلام دقيق لمن يذهب الي تحريره و دقته. و الي هذا ذهبت الأئمه المهتدية من عترة الرسول صلي الله عليه و آله فانهم قالوا: لو فوض اليهم علي جهة الاهمال لكان لازما له رضي ما اختاره و استوجبوا منه الثواب و لم يكن عليهم فيما جنوه العقاب اذا كان الاهمال واقعا. تنصرف هذه المقالة علي معنيين: اما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختبارهم بآرائهم ضرورة كره ذلك أم أحب فقد لزمه الوهن، أو يكون جل و عز عجز عن تعبدهم بالأمر و النهي علي ارادته كرهوا أو أحبوا، ففوض أمره و نهيه و أجراهما علي محبتهم اذا عجز عن تعبدهم بارادته، فجعل الاختبار اليهم في الكفر و الايمان و مثل ذلك مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه و يعرف له فضل ولايته و يقف عنده أمره و نهيه و ادعي مالك العبد أنه قاهر عزيز حكيم فأمر عبده و نهاه و وعده علي اتباع أمره عظيم الثواب و أوعده علي معصيته أليم العقاب، فخالف العبد ارادة مالكه و لم يقف عند أمره نهيه، فأي أمر أمره أو أي نهي نهاه عنه لم يأته علي ارادة المولي بل كان العبد يتبع ارادة نفسه اتباع هواه و لا



[ صفحه 272]



يطيق المولي أن يرده الي اتباع أمره و نهيه و الوقوف علي ارادته، ففوض اختياره أمره و نهيه اليه و رضي منه بكل ما فعله علي أرادة العبد لا علي ارادة المالك و بعثه في بعض حوائجه و سمي له الحاجة فخالف علي مولاه و قصد لارادة نفسه و اتبع هواه، فلما رجع الي مولاه نظر الي ما أتاه به فاذا هو خلاف ما أمره به، فقال له: لم أتيتني بخلاف ما أمرتك؟ فقال العبد: اتكلت علي تفويضك الأمر الي فاتبعت هواي و ارادتي، لأن المفوض اليه غير محظور عليه، فاستحال التفويض أو ليس يجب علي هذا السبب اما ان يكون المالك للعبد قادرا يأمر عبده باتباع أمره و نهيه علي ارادته لا علي ارادة العبد و يملكه من الطاقة بقدر ما يأمره به و ينهاه عنه، فاذا أمره بأمر و نهاه عن نهي عرفه الثواب و العقاب عليهما. و حذره و رغبه بصفة ثوابه و عقابه ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملكه من الطاقه لأمره و نهيه و ترغيبه و ترهيبه، فيكون عدله و انصافه شاملا له و حجته واضحة عليه للاعذار و الانذار، فاذا اتبع العبد أمر مولاه جازاه و اذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه، أو يكون عاجزا غير قادر، ففوض أمره اليه أحسن أم أساء، أطاع أم عصي، عاجز عن عقوبته و رده الي اتباع أمره. و في أثبات العجز نفي القدرة و التأله و ابطال الأمر و النهي و الثواب و العقاب و مخالفة الكتاب، اذا يقول: و لا يرضي لعباده الكفر و ان تشكروا يرضه لكم [11] و قوله عزوجل: اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن الا و أنتم مسلمون [12] و قوله: و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون. ما اريد منهم من رزق و ما اريد أن يطعمون. [13] و قوله: اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا: اطيعوا الله و أطيعوا الرسول و لا تولوا عنه و أنتم تسمعون. [14] .

فمن زعم أن الله تعالي فوض أمره و نهيه الي عباده فقد أثبت عليه العجز



[ صفحه 273]



و أوجب عليه قبول كل ما عملوا من خير و شر و أبطل أمر الله و نهيه و وعده و وعيده، لعله ما زعم أن الله فوضها اليه لأن المفوض اليه بمشيئته، فان شاء الكفر و الايمان كان غير مردود عليه و لا محظور، فمن دان بالتفويض علي هذا المعني فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده و وعيده و أمره و نهيه و هو من أهل هذه الآية: أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحيوة الدنيا و يوم القيامة يردون الي أشد العذاب و ما الله بغافل عما تعلمون» [15] تعالي الله عما يدين به أهل التفويض علوا كبيرا لكن نقول: ان الله جل و عز خلق الخلق بقدرته و ملكهم استطاعة تعبدهم بها، فأمرهم و نهاهم بما أراد، فقبل منهم اتباع أمره و رضي بذلك لهم و نهاهم عن معصيته و ذم من عصاه و عاقبه عليها و لله الخيرة في الأمر و النهي يختار ما يريد و يأمر به و ينهي عما يكره و يعاقب عليه بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره و اجتناب معاصيه، لأنه ظاهر العدل و النصفة و الحكمة البالغة، بالغ الحجة بالاعذار و لانذار و اليه الصفوة يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته و احتجاجه علي عباده: اصطفي محمدا صلي الله عليه و آله و بعثه برسالاته الي خلقه، فقال من قال من كفار قومه حسدا و استكبارا: لولا نزل هذا القرآن علي رجل من القريتين عظيم [16] يعني بذلك امية بن أبي الصلت و أبامسعود الثقفي، فأبطل الله اختيارهم و لم يجز لهم آراءهم حيث يقول: أهم يقسمون رحمت ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحيوة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا و رحمت ربك خير مما يجمعون». [17] و لذلك اختار من الامور ما أحب و نهي عما كره، فمن أطاعه أثابه، و من عصاه عاقبه، و لو فوض اختيار أمره الي عباده لأجاز



[ صفحه 274]



لقريش اختيار أميه بن أبي الصلت و أبي مسعود الثقفي، اذا كانا عندهم أفضل من محمد صلي الله عليه و آله. فلما أدب المؤمنين بقوله: و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة اذا قضي الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم». [18] فلم يجز لهم الاختيار بأهوائهم و لا يقبل منهم الا اتباع أمره و اجتناب نهيه علي يدي من اصطفاه، فمن أطاعه رشد و من عصاه ضل و غوي و لزمته الحجة بما ملكه من الاستطاعه لاتباع أمره و اجتناب نهيه، فمن أجل ذلك حرمه ثوابه و أنزل به عقابه.

و هذا القول بين القولين ليس بجبر و لا تفويض و بذلك أخبر أميرالمؤمنين صلوات الله عليه، عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم و يقعد و يفعل، فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام سألت تملكها من دون الله أو مع الله، فسكت عباية، فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام قل يا عباية، قال: و ما أقول؟

قال عليه السلام: أن قلت: انك تملكها مع الله قتلتك و ان قلت: تملكها دون الله قتلتك.

قال عبايه: فما أقول يا أميرالمؤمنين؟

قال عليه السلام: تقول انك تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فان يملكها اياك كان ذلك من عطائه، و ان يسلبكها كان ذلك من بلائه، هو المالك لما ملكك و القادر علي ما عليه أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول و القوة حين يقولون: لا حول و لا قوة الا بالله.

قال: عباية و ما تأويلها يا أميرالمؤمنين؟

قال عليه السلام: لا حول عن معاصي الله الا بعصمة الله، و لا قوة لنا علي طاعة الله الا بعون الله.

قال فوثب عباية فقبل يديه و رجليه.

و روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام: حين أتاه نجده يسأله عن معرفة الله، قال: يا



[ صفحه 275]



أميرالمؤمنين بما عرفت ربك؟

قال عليه السلام: بالتمييز الذي خولني، و العقل الذي دلني.

قال: أفمجبول أنت عليه؟

قال: لو كنت مجبولا ما كنت محمودا علي احسان و لا مذموما علي اسائة و كان المحسن أولي باللائمة من المسي ء فعلمت أن الله قائم باق و مادونه حدث حائل زائل و ليس القديم الباقي كالحدث الزائل.

قال نجدة: أجدك أصبحت حكيما يا أميرالمؤمنين.

قال أصبحت مخيرا، فان أتيت السيئة بمكان الحسنة فأنا المعاقب عليها.

و روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال الرجل سأله بعد انصرافه من الشام، فقال: يا أميرالمؤمنين أخبرنا عن خروجنا الي الشام بقضاء و قدر؟ قال: نعم يا شيخ؛ ما علوتم تلعة و لا هبطتم واديا الا بقضاء و قدر من الله.

فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين؟

فقال عليه السلام: مه يا شيخ، فاالله قد عظم أجركم في مسيركم، و أنتم سائرون، و في مقامكم و أنتم مقيمون، و في انصرافكم و أنتم منصرفون، و لم تكونوا في شي ء من اموركم مكرهين، و لا اليه مضطرين، لعلك ظننت أنه قضاء حتم و قدر لازم، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب و العقاب و لسقط الوعد و الوعيد، و لما ألزمت الأشياء أهلها علي الحقائق ذلك مقالة عبدة الأوثان و أولياء الشيطان، ان الله جل و عز أمر تخيرا و نهي تحذيرا و لم يطع مكرها و لم يعص مغلوبا و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار، [19] فقام الشيخ فقبل رأس أميرالمؤمنين عليه السلام و أنشأ يقول:



[ صفحه 276]



أنت الامام الذي نرجو بطاعته

يوم النجاة من الرحمن غفرانا



أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربك عنا فيه رضوانا



فليس معذرة في فعل فاحشة

قد كنت راكبها ظلما و عصيانا



فقد دل أميرالمؤمنين عليه السلام علي موافقه الكتاب و نفي الجبر و التفويض اللذين يلزمان من دان بهما تقلدهما الباطل و الكفر و تكذيب الكتاب، و نعوذ بالله من الضلالة و الكفر و لسنا ندين بجبر و لا تفويض لكنا نقول بمنزلة بين المنزلتين و هو الامتحان و الاختبار بالاستطاعة التي ملكنا الله و تعبدنا بها علي ما شهد به الكتاب و دان به الأئمه الأبرار من آل الرسول صلوات الله عليهم. و مثل الاختبار بالاستطاعة مثل رجل ملك عبدا و ملك مالا كثيرا أحب أن تختبر عبده علي علم منه بما يؤول اليه، فملكه من ماله بعض ما أحب و وقفه علي امور عرفها العبد فأمره أن يصرف ذلك المال فيها، و نهاه عن أسباب لم يحبها و تقدم اليه أن يجتنبها و لا ينفق من ماله فيها، و المال يتصرف في أي الوجهين، فصرف المال أحدهما في اتباع أمر المولي و رضاه، و الآخر صرفه في اتباع نهيه و سخطه، و أسكنه دار اختبار، أعلمه أنه غير دائم له السكني في الدار و أن له دارا غيرها و هو مخرجه اليها فيها ثواب و عقاب دائمان، فان أنفد العبد المال الذي ملكه مولاه في الوجه الذي أمره به جعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمه أنه مخرجه اليها، و ان أنفق المال في الوجه الذي نهاه عن انفاقه فيه، جعل له ذلك العقاب الدائم في دار الخلود. و قد حد المولي في ذلك حدا معروفا و هو المسكن الذي أسكنه في الدار الاولي، فاذا بلغ الحد استبدل المولي بالمال و بالعبد علي أنه لم يزل مالكا للمال و العبد في الأوقات كلها الا أنه وعد أن لا يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار الاولي الي أن يستتم سكناه فيها، فوفي له لأن من صفات المولي العدل و الوفاء و النصفة و الحكمة أو ليس يجب ان كان ذلك العبد حرف ذلك المال في



[ صفحه 277]



الوجه المأمور به أن يفي له بما وعده من الثواب و تفضل عليه بأن استعمله في دار فانية و أثابه علي طاعته فيها نعيما دائما في دار باقية دائمة. و ان صرف العبد المال الذي ملكه مولاه أيام سكناه تلك الدار الاولي في الوجه المنهي عنه و خالف أمر مولاه كذلك تجب عليه العقوبة الدائمة التي حذره اياها، غير ظالم له لما تقدم اليه و أعلمه و عرفه و أوجب له الوفاء بوعده و وعيده، بذلك يوصف القادر القاهر. و أما المولي فهو الله جل و عز و أما العبد فهو ابن آدم المخلوق و المال قدرة الله الواسعة و محنته اظهاره الحكمة و القدرة و الدار الفانية هي الدنيا. و بعض المال الذي ملك مولاه هو الاستطاعة التي ملك ابن آدم و الامور التي أمر الله بصرف المال اليها هو الاستطاعته لاتباع الأنبياء و الاقرار بما أور دوه عن الله جل و عز و اجتناب الأسباب التي نهي عنها هي طرق ابليس. و اما وعده فالنعيم الدائم و هي الجنة.

و أما الدار الفانية فهي الدنيا، و أما الدار الأخري فهي الدار الباقيه و هي الآخرة. و القول بين الجبر التفويض هو الاختبار و الامتحان و البلوي بالاستطاعة التي ملك العبد.

و شرحها في الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق عليه السلام، أنها جمعت جوامع الفضل و أنها مفسرها بشواهد من القرآن و البيان ان شاء الله.


پاورقي

[1] سورة المائدة، الاية 55.

[2] سورة الأحزاب، الاية 57.

[3] سورة الأحزاب، الاية 57.

[4] سورة البقرة، الاية 81.

[5] سورة النساء، الآية 10.

[6] سورة النساء، الاية 56.

[7] سورة البقرة، الآية 85.

[8] سورة الأنعام، الآية 160.

[9] سورة آل عمران، الآية 30.

[10] سورة غافر، الآية 17.

[11] سورة الزمر، الآية 7.

[12] سورة البقرة، الآية 102.

[13] سورة الذاريات، الآية 56.

[14] سورة النساء، الآية 36.

[15] سورة البقرة، الآية 85.

[16] سورة الزخرف، الآية 31.

[17] سورة الزخرف، الآية 32.

[18] سورة الأحزاب، الآية 36.

[19] سورة ص، الآية 27.