بازگشت

تعميق الفكر الاسلامي


توجيه الأمة ثقافيا من أولويات عمل الأئمة عليهم السلام و قد كان للأئمة عليهم السلام دور أساسي في توجيه الأمة نحو الثقافة الرسالية و البصائر القرآنية.

و قد كان الامام الهادي عليه السلام يوجه الأمة نحو الثقافة القرآنية، و يعمق هذه الثقافة في نفوس الناس، و يفضح ثقافة الطاغوت، و ثقافة التخلف و الجهل، و التي كان لها دور رئيس في تخلف الأمة حضاريا.

«في أيام الامام الهادي عليه السلام كانت هنالك نزاعات فكرية و عقائدية حادة، و من جملة هذه النزاعات النزاع المشهور حول خلق القرآن، و معرفة أهمية هذه المسألة لا نتوصل اليها الا عندما نقارنها بمسألة حديثة، كأزمة لبنان مثلا، فلو سأل شخص بعد ألف أو ألفين سنة من الآن رجلا آخر، ما سبب أزمة لبنان؟



[ صفحه 32]



فسوف يكون جوابه: الأحداث نشأت من أنهم اختلفوا و بعضهم قتل بعضا و انتهي الأمر.

لكن اليوم و نحن نعايش تلك الأزمة، فنحن نعرف ضخامة الأحداث و ما هي أهميتها و ارتباطاتها و عواملها؟؟

كذلك قصة خلق القرآن الآن تذكر كقصة عابرة، لكن في وقتها كانت قضية أساسية و مثلما توجد الآن في العالم الاسلامي تيارات شرقية و غربية و اسلامية متنوعة و مختلفة، كذلك في العهد الاسلامي السابق كانت تشق الأمة الاسلامية حركتان فكريتان:

1- حركة تسمي بالاعتزال.

2- حركة تسمي بالأشاعرة.

حركة الأشاعرة و حركة المعتزلة لم تكونا فقط مجرد مدرستين فكريتين، بل كان لهما امتدادهما الاجتماعي، و كان لكل واحدة أتباعها بين جماهير المسلمين، و كانت كثيرا ما تقع بينهم الخلافات. و كانت السلطات تغذي هذه الخلافات، و تزيد من حدتها من أجل تحقيق مصالحها اللا مشروعة، فقبل المأمون العباسي كانت السلطة العباسية تدعو الي حركة الأشعرية و الي الأشاعرة، و كان جلاوزتها يأخذون كل معتزلي و يتهمونه بالزندقة و يقتلونه.



[ صفحه 33]



و لما جاء المأمون العباسي الي الحكم اتجه الي الاعتزال، و الاعتزال كان حركة المثقفين، حركة الطبقة الواعية في ذلك اليوم، و قد ظلت السلطة في عهد المأمون العباسي و المعتصم العباسي و الواثق العباسي تؤيد الاعتزال، و لما جاء المتوكل صار مع الأشاعرة» [1] .

و لقد كان للامام الهادي عليه السلام دور رئيس في فضح هذه الثقافات المنحرفة، و توضيح الثقافة القرآنية، و كان يوضح للجماهير البصائر القرآنية أمام كل الانحرافات الفكرية و الثقافية و في مختلف القضايا الحياتية، من أجل أن تكون الجماهير علي رؤية و بصيرة من أمرها، و من أهم هذه المواقف للامام نذكر:

1 - كتابه عليه السلام الي بعض شيعته ببغداد يحدد فيها الرؤية الرسالية تجاه قضية خلق القرآن و قد جاء فيه:

«بسم الله الرحمن الرحيم، عصمنا الله و اياك من الفتنة فان يفعل فقد أعظم بها نعمة، و ان لا يفعل فهي الهلكة، نحن نري أن الجدال في القرآن بدعة، اشترك فيها السائل و المجيب، فتعاطي السائل ما ليس له، و يتكلف المجيب ما ليس عليه، و ليس الخالق الا الله عزوجل و ما سواه مخلوق،



[ صفحه 34]



و القرآن كلام الله، لا تجعل له اسما من عندك فتكون من الضالين، جعلنا و اياك من الذين يخشون ربهم بالغيب و هم من الساعة مشفقون» [2] .

2- و من كتاب له عليه السلام الي أحمد بن اسحاق جوابا عن كتاب كتبه اليه يسأل عن الرؤية و ما فيه الناس: «لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي و المرئي هواء ينفذه البصر، فاذا انقطع الهواء و عدم الضياء بين الرائي و المرئي لم تصح الرؤية، و كان في ذلك الاشتباه، لأن الرائي متي ما ساوي المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه، و كان في ذلك التشبيه، لأن الأسباب لابد من اتصالها بالمسببات» [3] .

3- و من كتاب له عليه السلام في جواب لمن سأله عن التوحيد: «لم يزل الله موجودا ثم كون ما أراد، لا راد لقضائه، و لا معقب لحكمه، تاهت أوهام المتوهمين، و قصر طرف الطارفين، و تلاشت أوصاف الواصفين، و اضمحلت أقاويل المبطلين، عن الدرك لعجيب شأنه، أو الوقوع بالبلوغ علي علو مكانه، فهو بالموضع الذي لا يتناهي، و بالمكان الذي لم يقع عليه فيه عيون باشارة و لا عبارة، هيهات هيهات» [4] .



[ صفحه 35]



4- أما ما كان من دفعه للباطل عليه السلام، بعد اشتباه المسألة و التردد فيما هو الحق عند البعض، فمنه ما تكلم به عليه السلام مع فتح بن يزيد الجرجاني، لازالة بعض الشبهات الواردة في ذهنه و ما رد به علي رجل عباسي حين عز عليه تقدم الامام عليه، مع اعتقاده أنه أشرف منه نسبا! [5] .

و أما المتوكل و استفتاءاته و تحدياته للامام عليه السلام فهو كثير، فان المتوكل في الوقت الذي يعوزه الفقه في عدد من الوقائع، يضطر الي الرجوع الي الامام لتذليل ما يواجهه من عقبات، و لكنه كان يمزج استفتاءاته بالتحدي، فيسأل عن الحكمة أو الدليل بقصد الاحراج لا بقصد الفهم الصحيح، و كان الامام يجيبه بالشكل الذي يراه مناسبا مع فهمه و فهم الحاضرين، و موافقا للمصلحة مع كونه مثبتا للحق في نفس الوقت.

و من تحدي المتوكل للامام.. أنه قال ذات مرة لابن السكيت: اسأل ابن الرضا مسألة عوصاء بحضرتي! فيسأله ابن اسكيت عن بعض ما يراه صعبا و مشكلا، فيخرج الامام ظافرا منتصرا، و يجيب بما هو الحق الصريح و اذ ينتهي الكلام مع ابن السكيت يتدبر يحيي بن أكثم، فيقول: ما لابن السكيت،



[ صفحه 36]



و مناظرته، و انما هو صاحب نحو و شعر و لغة، و رفع قرطاسا فيه مسائل، فأملي علي بن محمد عليه السلام علي ابن السكيت جوابها.

انظر الي تعليق ابن أكثم حين قرأ جواب الامام، تجده قد تخوف من عمق أجوبته و دقة علمه، من أن يشارك في الدعاية له و تأكيد صدق قضيته، و بالنهاية توسيع و تقوية قواعده الشعبية؛ قال يحيي بن أكثم للمتوكل: «ما تحب أن تسأل هذا الرجل عن شي ء بعد مسائلي هذه، و أنه لا يرد عليه بشي ء بعدها الا دونها، و في ظهور علمه تقوية للرافضة» [6] .

5- (أجوبته عليه السلام ليحيي بن أكثم عن مسائله) قال موسي ابن محمد بن الرضا: لقيت يحيي بن أكثم في دار العامة، فسألني عن مسائل، فجئت الي أخي علي بن محمد عليهماالسلام فدار بيني و بينه من المواعظ ما حملني و بصرني طاعته، فقلت له: جعلت فداك ان ابن أكثم كتب يسألني عن مسائل لأفتيه فيها، فضحك عليه السلام ثم قال: فهل أفتيته؟ قلت: لا، لم أعرفها، قال عليه السلام: و ما هي؟

س 1 / قول الله تعالي: «قال الذي عنده علم من الكتب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك» [7] ان السائل هو نبي الله



[ صفحه 37]



سليمان، و المسؤول آصف، فهل كان سليمان و هو نبي محتاجا الي علم آصف؟

ج 1 / انه لم يعجز سليمان عليه السلام عن معرفة ما عرف آصف لكنه صلوات الله عليه أحب أن يعرف أمته من الجن و الانس أنه الحجة من بعده، و ذلك من علم سليمان عليه السلام أودعه عند آصف بأمر الله، ففهمه ذلك لئلا يختلف عليه في امامته و ولايته من بعده كما فهم سليمان عليه السلام في حياة داود عليه السلام لتعرف نبوته و امامته من بعده و لتأكيد الحجة علي الخلق.

س 2 / قوله تعالي: «و رفع أبويه علي العرش و خروا له سجدا» [8] كيف سجد يعقوب و ولده ليوسف و هم أنبياء؟

ج 2 / و أما سجود يعقوب عليهماالسلام و ولده ليوسف فكان طاعة لله و محبة ليوسف عليه السلام كما أن السجود من الملائكة لآدم عليه السلام لم يكن لآدم عليه السلام و انما كان ذلك طاعة لله و محبة منهم لآدم عليه السلام، فسجود يعقوب عليه السلام و ولده و يوسف عليه السلام معهم كان شكرا لله باجتماع شملهم، ألم تره يقول في شكره ذلك الوقت: «رب قد ءاتيتني من الملك



[ صفحه 38]



و علمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات و الأرض أنت ولي في الدنيا و الأخرة توفني مسلما و ألحقني بالصلحين» [9] .

س 3 / قوله تعالي: «فان كنت في شك مما أنزلنا اليك فسئل الذين يقرءون الكتب» [10] ، من المخاطب بالآية؟ فان كان المخاطب النبي صلي الله عليه و آله و سلم فقد شك، و ان كان المخاطب غيره فعلي من اذا أنزل الكتاب؟

ج 3 / ان المخاطب به رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و لم يكن في شك مما أنزل اليه و لكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث الله نبيا من الملائكة؟ اذ لم يفرق بين نبيه و بيننا في الاستغناء عن المآكل و المشارب و المشي في الأسواق، فأوحي الله الي نبيه: «فاسأل الذين يقرؤون الكتاب» بمحضر من الجهلة، هل بعث الله رسولا قبلك الا و هو يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و لك بهم أسوة. و انما قال: (فان كنت في شك) [11] و لم يكن شك و لكن للنصفة كما قال: «فقل تعالوا ندع أبنآءا و أبنآءكم و نسآءنا و نسآءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله علي الكذبين» [12] و لو قال: تعالوا فنجعل لعنة الله عليكم لم



[ صفحه 39]



يكونوا يجيبوا الي المباهلة، و قد علم الله أن نبيه يؤدي عنه رسالاته و ما هو من الكاذبين، فكذلك عرف النبي أنه صادق فيما يقول و لكن أحب أن ينصف من نفسه.

س 4 / قوله تعالي: «و لو أنما في الأرض من شجرة أقلم و البحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمت الله» [13] ما هذه الأبحر و أين هي؟

ج 4 / فهو كذلك لو أن أشجار الدنيا أقلام و البحر مداد يمده سبعة أبحر و انفجرت الأرض عيونا كما انفجرت في الطوفان، ما نفدت قبل أن تنفد كلمات الله و هي - أي البحر - عين الكبريت، و عين اليمن، و عين برهوت، و عين طبرية، و حمة ماسيدان تدعي لسان، و حمة افريقية تدعي سيلان، و عين باحوران، و نحن كلمات الله التي لا تنفد و لا تدرك فضائلنا.

س 5 / قوله تعالي: «و فيها ما تشتهيه الأنفس و تلذ الأعين» [14] فاشتهت نفس آدم عليه السلام أكل البر فأكل، فكيف عوقب؟

ج 5 / و أما الجنة فان فيها من المآكل و المشارب و الملاهي



[ صفحه 40]



ما تشتهي الأنفس و تلذ الأعين و أباح الله ذلك كله لآدم عليه السلام و الشجرة التي نهي الله عنها آدم عليه السلام و زوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد عهد اليهما أن لا ينظر الي من فضل الله عليه و الي خلائقه بعين الحسد فنسي و نظر بعين الحسد و لم يجد له عزما.

س 6 / و عن قوله: «أو يزوجهم ذكرانا و انثا» [15] اذا كان يزوج الله عباده الذكران فكيف عاقب قوما فعلوا ذلك؟

ج 6 / معاذ الله أن يكون عني الجليل ما لبست به علي نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم و من يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا ان لم يتب.

س 7 / كيف شهادة المرأة جازت وحدها و قد قال الله: «و أشهدوا ذوي عدل منكم»؟ [16] .

ج 7 / أما شهادة المرأة وحدها التي جازت فهي القابلة جازت شهادتها مع الرضا، فان لم يكن رضا فلا أقل من امرأتين تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة، لأن الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها، فان كانت وحدها قبل قولها مع يمينها.



[ صفحه 41]



س 8 / حكم علي عليه السلام في أمر الخنثي أن ينظر الي مبالها فان كان بولها بول الرجل فهي رجل، و ان كان بول الأنثي فهي أنثي، فمن ذا ينظر اليها فان كان الناظر اليها رجلا فعسي أن تكون امرأة، و ان كان الناظر اليها امرأة فعسي أن تكون رجلا، و هذا ما لا يحل و ما هو ميراثها؟

ج 8 / أما قول علي عليه السلام في الخنثي فهو كما قال: ينظر قوم اليه عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة و تقوم الخنثي خلفهم عريانة و ينظرون في المرايا فيرون الشي ء فيحكمون عليه.

س 9 / رجل أتي الي قطيع غنم فرأي الراعي ينزو علي شاة منها فلما بصر بصاحبها خلي سبيلها، فدخلت بين الغنم كيف تذبح و هل يجوز أكلها أم لا؟

ج 9 / أما الرجل الناظر الي الراعي و قد نزا علي شاة فان عرفها ذبحها و أحرقها، و ان لم يعرفها قسم الغنم نصفين و ساهم بينهما، فاذا وقع السهم علي أحد النصفين فقد نجا النصف الآخر، ثم يفرق النصف الآخر فلا يزال كذلك حتي تبقي شاتان فيقرع بينهما.

س / 10 صلاة الفجر لم يجهر فيها بالقراءة مع أنها من صلاة النهار و انما يجهر في صلاة الليل؟



[ صفحه 42]



ج 10 / أما صلاة الفجر فالجهر فيها بالقراءة، لأن النبي صلي الله عليه و آله و سلم كان يغلس [17] بها فقراءتها من الليل.

س 11 / ان عليا عليه السلام قال لابن جرموز: بشر قاتل ابن صفية [18] بالنار فلم يقتله و هو امام؟

ج 11 / أما قول علي عليه السلام: بشر قاتل ابن صفية بالنار فهو لقول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و كان ممن خرج يوم النهروان فلم يقتله أميرالمؤمنين عليه السلام بالبصرة، لأنه علم أنه يقتل في فتنة النهروان.

س 12 / أخبرني عن علي عليه السلام لم قتل أهل صفين و أمر بذلك مقبلين و مدبرين و أجاز [19] علي الجرحي، و كان حكمه يوم الجمل أنه لم يقتل موليا و لم يجز علي جريح و لم يأمر بذلك، و قال: من دخل داره فهو آمن، لم فعل ذلك؟ فان كان الحكم الأول صوابا فالثاني خطأ.

ج 12 / أما قولك: ان عليا عليه السلام قتل أهل الصفين مقبلين و مدبرين و أجاز علي جريحهم، و انه يوم الجمل لم يتبع موليا و لم يجز علي جريحهم، و كل من ألقي سلاحه آمنه، و من



[ صفحه 43]



دخل داره آمنه، فان أهل الجمل قتل امامهم و لم يكن لهم فئة يرجعون اليها، و انما رجع القوم الي منازلهم غير محاربين و لا مخالفين و لا منابذين، فقد رضوا بالكف عنهم، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم و الكف عن أذاهم، اذ لم يطلبوا عليه أعوانا، و أهل صفين كانوا يرجعون الي فئة مستعدة و امام يجمع لهم السلاح و الدروع و الرماح و السيوف و يسني لهم العطاء، و يهيئ لهم الانزال و يعود مريضهم و يجبر كسيرهم و يداوي جريحهم و يحمل راجلهم و يكسو حاسرهم و يردهم فيرجعون الي محاربتهم و قتالهم، فلم يساو بين الفريقين في الحكم لما عرف من الحكم في قتال أهل التوحيد لكنه شرح ذلك لهم، فمن رغب عرض علي السيف.

س 13 / أخبرني عن رجل أقر باللواط علي نفسه أيحد، أم يدرأ عنه الحد؟

ج 13 / أما الرجل الذي اعترف باللواط فانه لم تقم عليه بينة و انما تطوع بالاقرار من نفسه و اذا كان للامام الذي من الله أن يعاقب عن الله كان له أن يمن عن الله، أما سمعت قول الله: «هذا عطآؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب» [20] فبدأ بالمن قبل المنع.



[ صفحه 44]



ثم قال الامام الهادي عليه السلام: قد أنبأناك بجميع ما سألتنا عنه فاعلم ذلك [21] .

و هكذا أجاب الامام الهادي عليه السلام بصورة وافية و شافية علي هذه الأسئلة الغامضة مما أبهر يحيي بن أكثم، و جعله ينصح المتوكل بعدم تقديم أية أسئلة أخري الي الامام الهادي عليه السلام؛ لأن سيظهر العلم الغزير للامام عليه السلام مما يقوي الشيعة!!

فما يتمتع به الامام الهادي عليه السلام من طاقة علمية هائلة، و ابداع فكري متميز، و غزارة في العلم، و موسوعية في المعرفة، يجعله قادرا علي افحام الخصوم مهما كان لديهم من علم و معرفة.

و ما ذلك بغريب علي الامام الهادي عليه السلام، اذ انه الوارث لعلوم آبائه الطاهرين الذين نشروا العلم و المعرفة، و وضحوا معالم الفكر الاسلامي الأصيل.

6- رسالته لأهل الأهواز في الرد علي أهل الجبر و التفويض، و اثبات العدل و المنزلة بين المنزلتين، أوردها بتمامها الحسن بن علي بن شعبة الحراني في تحف العقول. و هذا نص الرسالة بتمامها:



[ صفحه 45]



«من علي بن محمد، سلام عليكم و علي من اتبع الهدي و رحمة الله و بركاته، فانه ورد علي كتابكم وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم، و خوضكم في القدر، و مقالة من يقول منكم بالجبر، و من يقول بالتفويض، و تفرقكم في ذلك و تقاطعكم و ما ظهر من العدواة بينكم، ثم سألتموني عنه و بيانه لكم و فهمت ذلك كله.

اعلموا رحمكم الله أنا نظرنا في الآثار و كثرة ما جاءت به الأخبار فوجدناها عند جميع من ينتحل الاسلام ممن يعقل عن الله جل و عز لا تخلو من معنيين: اما حق فيتبع و اما باطل فيجتنب. و قد اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق و في حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب و تحقيقه، مصيبون، مهتدون و ذلك بقول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «لا تجتمع أمتي علي ضلالة» فأخبر أن جميع ما اجتمعت عليه الأمة كلها حق، هذا اذا لم يخالف بعضها بعضا. و القرآن حق لا اختلاف بينهم في تنزيله و تصديقه؛ فاذا شهد القرآن بتصديق خبر و تحقيقه و أنكر الخبر طائفة من الأمة لزمهم الاقرار به ضرورة حين اجتمعت في الأصل علي تصديق الكتاب، فان [هي] جحدت و أنكرت لزمها الخروج من الملة.

فأول خبر يعرف تحقيقه من الكتاب و تصديقه و التماس شهادته عليه خبر ورد عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و وجد بموافقة



[ صفحه 46]



الكتاب و تصديقه بحيث لا تخالفه أقاويلهم، حيث قال: «اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي - أهل بيتي - لن تضلوا ما تمسكتم بهما و انهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض».

فلما وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب الله نصا مثل قوله جل و عز: «انما وليكم الله و رسوله و الذين ءامنوا الذين يقيمون الصلوة و يؤتون الزكوة و هم ركعون» [22] ، «و من يتول الله و رسوله و الذين ءامنوا فان حزب الله هم الغلبون» [23] و روت العامة في ذلك أخبارا لأميرالمؤمنين عليه السلام أنه تصدق بخاتمه و هو راكع فشكر الله ذلك له و أنزل الآية فيه. فوجدنا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قد أتي بقوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» و بقوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسي الا أنه لا نبي بعدي» و وجدناه يقول: «علي يقضي ديني و ينجز موعدي و هو خليفتي عليكم من بعدي».

فالخبر الأول الذي استنبطت منه هذه الأخبار خبر صحيح مجمع عليه لا اختلاف فيه عندهم، و هو أيضا موافق للكتاب، فلما شهد الكتاب بتصديق الخبر و هذه الشواهد الأخر لزم علي الأمة الاقرار بها ضرورة اذ كانت هذه الأخبار شواهدها من القرآن ناطقة و وافقت القرآن و القرآن وافقها. ثقم وردت حقائق الأخبار من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عن الصادقين عليهماالسلام و نقلها قوم



[ صفحه 47]



ثقات معروفون فصار الاقتداء بهذه الأخبار فرضا واجبا علي كل مؤمن و مؤمنة لا يتعداه الا أهل العناد. و ذلك أن أقاويل آل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم متصلة بقول الله و ذلك مثل قوله في محكم كتابه: «ان الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الاخرة و أعد لهم عذابا مهينا» [24] ، و وجدنا نظير هذه الآية قول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «من آذي عليا فقد آذاني و من آذاني فقد آذي الله و من آذي الله يوشك أن ينتقم منه» و كذلك قوله صلي الله عليه و آله و سلم: «من أحب عليا فقد أحبني و من أحبني فقد أحب الله». و مثل قوله صلي الله عليه و آله و سلم في بني وليعة [25] : «لأبعثن اليهم رجلا كنفسي يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله قم يا علي فسر اليهم».

و قوله صلي الله عليه و آله و سلم يوم خيبر: «لأبعثن اليهم غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتي يفتح الله عليه». فقضي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بالفتح قبل التوجيه فاستشرف لكلامه أصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. فلما كان من الغد دعا عليا عليه السلام فبعثه اليهم فاصطفاه بهذه المنقبة [26] و سماه كرارا غير فرار، فسماه الله محبا لله و لرسوله، فأخبر أن الله و رسوله يحبانه.



[ صفحه 48]



و انمنا قدمنا هذا الشرح و البيان دليلا علي ما أردنا و قوة لما نحن مبينوه من أمر الجبر و التفويض و المنزلة بين المنزلتين و بالله العون و القوة و عليه نتوكل في جميع أمورنا. فانا نبدأ من ذلك بقول الصادق عليه السلام: «لا جبر و لا تفويض و لكن منزلة بين المنزلتين و هي صحة الخلقة و تخلية السرب [27] و المهلة في الوقت و الزاد مثل الراحلة و السبب المهيج للفاعل علي فعله»، فهذه خمسة أشياء جمع بها الصادق عليه السلام جوامع الفضل، فاذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنه مطروحا بحسبه، فأخبر الصادق عليه السلام بأصل ما يجب علي الناس من طلب معرفته و نطق الكتاب بتصديقه فشهد بذلك محكمات آيات رسوله، لأن الرسول صلي الله عليه و آله و سلم لا يعدون شيئا من قوله و أقاويلهم حدود القرآن، فاذا وردت حقائق الأخبار و التمست شواهدها من التنزيل فوجد لها موافقا و عليها دليلا كان الاقتداء بها فرضا لا يتعداه الا أهل العناد كما ذكرنا في أول الكتاب. و لما التمسنا تحقيق ما قاله الصادق عليه السلام من المنزلة بين المنزلتين و انكاره الجبر و التفويض وجدنا الكتاب قد شهد له و صدق مقالته في هذا، و خبر عنه أيضا موافق لهذا، أن الصادق عليه السلام سئل هل



[ صفحه 49]



أجبر الله العباد علي المعاصي؟ فقال الصادق عليه السلام: هو أعدل من ذلك. فقيل له: فهل فوض اليهم؟ فقال عليه السلام: هو أعز و أقهر لهم من ذلك. و روي عنه أنه قال: الناس في القدر علي ثلاثة أوجه: رجل يزعم أن الأمر مفوض اليه فقد وهن الله في سلطانه فهو هالك. و رجل يزعم أن الله جل و عز أجبر العباد علي المعاصي و كلفهم ما لا يطيقون فقد ظلم الله في حكمه فهو هالك. و رجل يزعم أن الله كلف العباد ما يطيقون و لم يكلفهم ما لا يطيقون، فاذا أحسن حمد الله و اذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ، فأخبر عليه السلام أن من تقلد الجبر و التفويض و دان بهما فهو علي خلاف الحق. فقد شرحت الجبر الذي من دان به يلزمه الخطأ، و أن الذي يتقلد التفويض يلزمه الباطل، فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما.

ثم قال عليه السلام: و اضرب لكل باب من هذه الأبواب مثلا يقرب المعني للطالب و يسهل له البحث عن شرحه، تشهد به محكمات آيات الكتاب و تحقق تصديقه عند ذوي الألباب و بالله التوفيق و العصمة. فأما الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهو قول من زعم أن الله جل و عز أجبر العباد علي المعاصي و عاقبهم عليها. و من قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه و كذبه ورد عليه قوله: «و لا يظلم ربك أحدا» [28] .



[ صفحه 50]



و قوله: «ذلك بما قدمت أيديكم و أن الله ليس بظلام للعبيد» [29] و قوله: «ان الله لا يظلم الناس شيئا و لكن الناس أنفسهم يظلمون» [30] مع آي كثيرة في ذكر هذا. فمن زعم أنه مجبر علي المعاصي فقد أحال بذنبه علي الله و قد ظلمه في عقوبته. و من ظلم الله فقد كذب كتابه. و من كذب كتابه فقد لزمه الكفر باجماع الأمة. و مثل ذلك مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك نفسه و لا يملك عرضا من عرض الدنيا و يعلم مولاه ذلك منه فأمره علي علم منه بالمصير الي السوق لحاجة يأتيه بها ولم يملكه ثمن ما يأتيه به من حاجته و علم المالك أن علي الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه الا بما يرضي به من الثمن، و قد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل و النصفة و اظهار الحكمة و نفي الجور و أوعد عبده ان لم يأته بحاجته أن يعاقبه علي علم منه بالرقيب الذي علي حاجته أنه سيمنعه، و علم أن المملوك لا يملك ثمنها و لم يملكه ذلك، فلما صار العبد الي السوق و جاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولي لها وجد عليها مانع يمنع منها الا بشراء و ليس يملك العبد ثمنها، فانصرف الي مولاه خائبا بغير قضاء حاجته فاغتاظ مولاه من ذلك و عاقبه عليه. أليس يجب في



[ صفحه 51]



عدله و حكمه أن لا يعاقبه و هو يعلم أن عبده لا يملك عرضا من عروض الدنيا و لم يملكه ثمن حاجته؟ فان عاقبه عاقبه ظالما متعديا عليه مبطلا لما وصف من عدله و حكمته و نصفته و ان لم يعاقبه كذب نفسه في وعيده اياه حين أوعده بالكذب و الظلم اللذين ينفيان العدل و الحكمة. تعالي عما يقولون علوا كبيرا، فمن دان بالجبر أو بما يدعو الي الجبر فقد ظلم الله و نسبه الي الجور و العدوان، اذ أوجب علي من أجبره [ه] العقوبة. و من زعم أن الله أجبر العباد فقد أوجب علي قياس قوله ان الله يدفع عنهم العقوبة. و من زعم أن الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب فقد كذب الله في وعيده حيث يقول: «بلي من كسب سيئة و أحطت به خطيئته فأولئك أصحب النار هم فيها خلدون» [31] و قوله: «ان الذين يأكلون أمول اليتمي ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا» [32] و قوله: «ان الذين كفروا بايتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلنهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ان الله كان عزيزا حكيما» [33] .

مع أي كثيرة في هذا الفن ممن كذب وعيد الله و يلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر و هو ممن قال الله: «أفتؤمنون



[ صفحه 52]



ببعض الكتب و تكفرون ببعض فما جزآء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحيوة الدنيا و يوم القيمة يردون الي أشد العذاب و ما الله بغفل عما تعملون» [34] بل نقول: ان الله جل و عز يجازي العباد علي أعمالهم و يعاقبهم علي أفعالهم بالاستطاعة التي ملكهم اياها، فأمرهم و نهاهم بذلك و نطق كتابه: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و من جآء بالسيئة فلا يجزي الا مثلها و هم لا يظلمون» [35] و قال جل ذكره: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا» [36] و قال: «اليوم تجزي كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم» [37] فهذه آيات محكمات تنفي الجبر و من دان به. و مثلها في القرآن كثير، اختصرنا ذلك لئلا يطول الكتاب و بالله التوفيق.

و أما التفويض الذي أبطله الصادق عليه السلام و أخطأ [38] من دان به و تقلده فهو قال القائل: ان الله جل ذكره فوض الي العباد اختيار أمره و نهيه و أهملهم. و في هذا كلام دقيق لمن يذهب الي تحريره و دقته. و الي هذا ذهبت الأئمة المهتدية من



[ صفحه 53]



عترة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، فانهم قالوا: لو فوض اليهم علي جهة الاهمال لكان لازما له رضا ما اختاروه و استوجبوا منه الثواب [39] و لم يكن عليهم فيما جنوه العقاب اذا كان الاهمال واقعا. و تنصرف هذه المقالة علي معنيين: اما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورة كره ذلك أم أحب فقد لزمه الوهن، أو يكون عزوجل عجز عن تعبدهم بالأمر و النهي علي ارادته كرهوا أو أحبوا ففوض أمره و نهيه اليهم و أجراهما علي محبتهم، اذ عجز عن تعبدهم بارادته فجعل الاختيار اليهم في الكفر و الايمان و مثل ذلك مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه و يعرف له فضل ولايته و يقف عند أمره و نهيه، و ادعي مالك العبد أنه قاهر عزيز حكيم، فأمر عبده و نهاه و وعده علي اتباع أمره عظيم الثواب و أوعده علي معصيته أليم العقاب، فخالف العبد ارادة مالكه و لم يقف عند أمره و نهيه، فأي أمر أمره أو أي نهي نهاه عنه لم يأته علي ارادة المولي بل كان العبد يتبع ارادة نفسه و اتباع هواه و لا يطيق المولي أن يرده الي اتباع أمره و نهيه و الوقوف علي ارادته، ففوض اختيار أمره و نهيه اليه و رضي منه بكل ما فعله علي ارادة العبد لا علي ارادة المالك و بعثه في بعض حوائجه و سمي له الحاجة فخالف علي مولاه و قصد لارادة نفسه و اتبع



[ صفحه 54]



هواه، فلما رجع الي مولاه نظر الي ما أتاه به فاذا هو خلاف ما أمره به، فقال له: لم أتيتني بخلاف ما أمرتك؟ فقال العبد: اتكلت علي تفويضك الأمر الي فاتبعت هواي و ارادتي، لأن الموض اليه غير محظور عليه فاستحال التفويض.

أو ليس يجب علي هذا السبب اما أن يكون المالك للعبد قادرا يأمر عبده باتباع أمره و نهيه علي ارادته لا علي ارادة العبد و يملكه من الطاقة بقدر ما يأمره به و ينهاه عنه، فاذا أمره بأمر و نهاه عن نهي عرفه الثواب و العقاب عليهما.

و حذره و رغبه بصفة ثوابه و عقابه ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملكه من الطاقة [40] لأمره و نهيه و ترغيبه و ترهيبه، فيكون عدله و انصافه شاملا له و حجته واضحة عليه للاعذار و الانذار. فاذا اتبع العبد أمر مولاه جازاه و اذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه أو يكون عاجزا غير قادر ففوض أمره اليه أحسن أم أساء أطاع أم عصي، عاجز عن عقوبته ورده الي اتباع أمره. و في اثبات العجز نفي القدرة و التألة و ابطال الأمر و النهي و الثواب و العقاب و مخالفة الكتاب اذ يقول: «و لا يرضي لعبادة الكفر و ان تشكروا يرضه لكم» [41] ، و قوله عزوجل: «اتقوا الله حق



[ صفحه 55]



تقاتله، و لا تموتن الا و أنتم مسلمون» [42] و قوله: «و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون» [43] و قوله: «ما أريد منهم من رزق و مآ أريد أن يطعمون» [44] و قوله: «و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا» [45] و قوله: «يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله و رسوله و لا تولوا عنه و أنتم تسمعون» [46] فمن زعم أن الله تعالي فوض أمره و نهيه الي عباده فقد أثبت عليه العجز و أوجب عليه قبول كل ما عملوا من خير و شر و أبطل أمر الله و نهيه و وعد و وعيده، لعلة ما زعم أن الله فوضها اليه لأن المفوض اليه يعمل بمشيئته، فان شاء الكفر أو الايمان كان غير مردود عليه و لا محظور، فمن دان بالتفويض علي هذا المعني فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده و وعيده و أمره و نهيه و هو من أهل هذه الآية «أفتؤمنون ببعض الكتب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحيوة الدنيا و يوم القيمة يردون الي أشد العذاب و ما الله بغفل عما تعملون» [47] ، تعالي الله عما يدين به أهل التفويض علوا كبيرا.



[ صفحه 56]



لكن نقول: ان الله عزوجل خلق الخلق بقدرته، و ملكهم استطاعة تعبدهم بها، فأمرهم و نهاهم بما أراد [48] فقبل منهم اتباع أمره و رضي بذلك لهم. و نهاهم عن معصيته و ذم من عصاه و عاقبه عليها و لله الخيرة في الأمر و النهي، يختار ما يريد و يأمر به و ينهي عما يكره و يعاقب عليه بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره و اجتناب معاصيه، لأنه ظاهر العدل و النصفة و الحكمة البالغة، بالغ الحجة بالاعذار و الانذار و اليه الصفوة يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته و احتجاجه علي عباده، اصطفي محمدا صلي الله عليه و آله و سلم و بعثه برسالاته الي خلقه، فقال من قال من كفار قومه حسدا و استكبارا: «و قالوا لولا نزل هذا القرءان علي رجل من القريتين عظيم» [49] يعني بذلك أمية بن أبي الصلت و أبامسعود الثقفي، فأبطل الله اختيارهم و لم يجز لهم آراءهم حيث يقول:

«أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحيوة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض درجت ليتخذ بعضهم بعضا سخريا و رحمت ربك خير مما يجمعون» [50] و لذلك اختار من الأمور ما أحب و نهي عما كره، فمن أطاعه أثابه. و من عصاه عاقبه و لو



[ صفحه 57]



فوض اختيار أمره الي عباده لأجاز لقريش اختيار أمية بن أبي الصلت و أبي مسعود الثقفي، اذ كانا عندهم أفضل من محمد صلي الله عليه و آله و سلم.

فلما أدب الله المؤمنين بقوله: «و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة اذا قضي الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» [51] ، فلم يجز لهم الاختيار بأهوائهم و لم يقبل منهم الا اتباع أمره و اجتناب نهيه علي يدي من اصطفاه، فمن أطاعه رشد و من عصاه ضل و غوي و لزمته الحجة بما ملكه من الاستطاعة لاتباع أمره و اجتناب نهيه، فمن أجل ذلك حرمه ثوابه و أنزل به عقابه.

و هذا القول بين القولين ليس بجبر و لا تفويض و بذلك أخبر أميرالمؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم و يقعد و يفعل.

فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام: سألت عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية، فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام: قل يا عباية، قال و ما أقول؟ قال عليه السلام: ان قلت: انك تملكها مع الله قتلتك و ان قلت: تملكها دون الله قتلتك قال عباية: فما أقول يا أميرالمؤمنين؟ قال عليه السلام:



[ صفحه 58]



تقول انك تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فان يملكها اياك كان ذلك من عطائه، و ان يسلبكها كان ذلك من بلائه، هو المالك لما ملكك و القادر علي ما عليه أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول و القوة حين يقولون: لا حول و لا قوة الا بالله. قال عباية: و ما تأويلها يا أميرالمؤمنين؟ قال عليه السلام: لا حول عن معاصي الله الا بعصمة الله و لا قوة لنا علي طاعة الله الا بعون الله، قال: فوثب عباية فقبل يديه و رجليه.

و روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة الله، قال: يا أميرالمؤمنين بماذا عرفت ربك؟ قال عليه السلام: بالتمييز الذي خولني و العقل الذي دلني، قال: أفمجبول أنت عليه؟ قال: لو كنت مجبولا ما كنت محمودا علي احسان و لا مذموما علي اساءة و كان المحسن أولي باللائمة من المسي ء فعلمت أن الله قائم باق و ما دونه حدث حائل زائل، و ليس القديم الباقي كالحدث الزائل، قال نجدة: أجدك أصبحت حكيما يا أميرالمؤمنين، قال أصبحت خيرا، فان أتيت السيئة [ب] مكان الحسنة فأنا المعاقب عليها.

و روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام، فقال: يا أميرالمؤمنين أخبرنا عن خروجنا الي الشام بقضاء و قدر؟ قال عليه السلام: نعم يا شيخ، ما علوتم



[ صفحه 59]



تلعة [52] و لا هبطتم واديا الا بقضاء و قدر من الله، فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين؟ فقال عليه السلام: مه يا شيخ، فان الله قد عظم أجركم في مسيركم و أنتم سائرون، و في مقامكم و أنتم مقيمون، و في انصرافكم و أنتم منصرفون، و لم تكونوا في شي ء من أموركم مكرهين و لا اليه مضطرين، لعلك ظننت أنه قضاء حتم و قدر لازم، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب و العقاب و لسقط الوعد و الوعيد و لما ألزمت الأشياء أهلها [53] علي الحقائق، ذلك مقالة عبدة الأوثان و أولياء الشيطان، ان الله جل و عز أمر تخييرا و نهي تحذيرا و لم يطع مكرها و لم يعص مغلوبا و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.

فقام الشيخ فقبل رأس أميرالمؤمنين عليه السلام و أنشأ يقول:



أنت الامام الذي نرجو بطاعته

يوم النجاة من الرحمن غفرانا



أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربك عنا فيه رضوانا [54] .



فليس معذرة في فعل فاحشة

قد كنت راكبها ظلما و عصيانا [55] .



فقد دل أميرالمؤمنين عليه السلام علي موافقة الكتاب و نفي الجبر و التفويض اللذين يلزمان من دان بهما و تقلدهما الباطل



[ صفحه 60]



و الكفر و تكذيب الكتاب و نعوذ بالله من الضلالة و الكفر، و لسنا ندين بجبر و لا تفويض لكنا نقول بمنزلة بين المنزلتين و هو الامتحان و الاختبار بالاستطاعة التي ملكنا الله و تعبدنا بها علي ما شهد به الكتاب و دان به الأئمة الأبرار من آل الرسول صلوات الله عليهم.

و مثل الاختبار بالاستطاعة مثل رجل ملك عبدا و ملك مالا كثيرا أحب أن يختبر عبده علي علم منه بما يؤول اليه، فملكه من ماله بعض ما أحب و وقفه [56] علي أمور عرفها العبد فأمره أن يصرف ذلك المال فيها و نهاه عن أسباب لم يحبها و تقدم اليه أن يجتنبها و لا ينفق من ماله فيها، والمال يتصرف في أي الوجهين، فصرف المال [57] أحدهما في اتباع أمر المولي و رضاه، و الآخر صرفه في اتباع نهيه و سخطه. و أسكنه دار اختبار أعلمه أنه غير دائم له السكني في الدار و أن له دارا غيرها و هو مخرجه اليها، فيها ثواب و عقاب دائمان، فان أنفذ العبد المال الذي ملكه مولاه في الوجه الذي أمره به جعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمه أنه مخرجه اليها، و ان أنفق المال في الوجه الذي نهاه عن انفاقه فيه جعل له



[ صفحه 61]



ذلك العقاب الدائم في دار الخلود. و قد حد المولي في ذلك حدا معروفا و هو المسكن الذي أسكنه في الدار الأولي، فاذا بلغ الحد استبدل المولي بالمال و بالعبد علي أنه لم يزل مالكا للمال و العبد في الأوقات كلها الا أنه وعد أن لا يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار الأولي الي أن يستتم سكناه فيها فوفي له لأن من صفات المولي العدل و الوفاء و النصفة و الحكمة، أو ليس يجب ان كان ذلك العبد صرف ذلك المال في الوجه المأمور به أن يفي له بما وعده من الثواب و تفضل عليه بأن استعمله في دار فانية و أثابه علي طاعته فيها نعيما دائما في دار باقية دائمة. و ان صرف العبد المال الذي ملكه مولاه أيام سكناه تلك الدار الأولي في الوجه المنهي عنه و خالف أمر مولاه كذلك تجب عليه العقوبة الدائمة التي حذره اياها، غير ظالم له لما تقدم اليه و أعلمه و عرفه و أوجب له الوفاء بوعد و وعيده، بذلك يوصف القادر القاهر. و أما المولي فهو الله جل و عز، و أما العبد فهو ابن آدم المخلوق، و المال قدرة الله الواسعة، و محنته [58] اظهار [ه] الحكمة و القدرة، و الدار الفانية هي الدنيا، و بعض المال الذي ملكه مولاه هو الاستطاعة التي ملك ابن آدم، و الأمور التي أمر الله



[ صفحه 62]



بصرف المال اليها هو الاستطاعة لاتباع الأنبياء و الاقرار بما أوردوه عن الله جل و عز، و اجتناب الأسباب التي نهي عنها هي طرق ابليس. و أما وعده فالنعيم الدائم و هي الجنة، و أما الدار الفانية فهي الدنيا. و أما الدار الأخري فهي الدار الباقية و هي الآخرة. و القول بين الجبر و التفويض هو الاختبار و الامتحان و البلوي بالاستطاعة التي ملك العبد. و شرحها في الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق عليه السلام [59] أنها جمعت جوامع الفضل و أنا مفسرها بشواهد من القرآن و البيان ان شاء الله.


پاورقي

[1] التاريخ الاسلامي: ص 377.

[2] التوحيد، ص 224، رقم 4.

[3] التوحيد، ص 109، رقم 7.

[4] أئمتنا، ص 227.

[5] تاريخ الغيبة الصغري، ص 132.

[6] تاريخ الغيبة الصغري، ص 133.

[7] سورة النمل، الآية 40.

[8] سورة يوسف، الآية 100.

[9] سورة يوسف، الآية 101.

[10] سورة يونس، الآية 94.

[11] سورة يونس، الآية 94.

[12] سورة آل عمران، الآية 61.

[13] سورة لقمان، الآية 27.

[14] سورة الزخرف، الآية 71.

[15] سورة الشوري، الآية 50.

[16] سورة الطلاق، الآية 2.

[17] يغلس بها: أي يصلي بها في الغلس، و هو الظلمة في آخر الليل.

[18] ابن صفية: هو الزبير بن العوام قتله ابن جرموز يوم الجمل.

[19] أجاز: أي أجهز عليهم.

[20] سورة ص، الآية: 39.

[21] تحف العقول، ص 352. و قد رتبنا النص علي شكل سؤال و جواب تسهيلا لفهم القارئ.

[22] سورة المائدة، الآية: 55.

[23] سورة المائدة، الآية: 56.

[24] سورة الأحزاب، الآية: 57.

[25] بنو وليعة - كسفينة -: حي من كندة.

[26] في بعض النسخ [بهذه الصفة].

[27] السرب - بالفتح -: الطريق و الصدر. - و بالكسر - أيضا: الطريق و القلب. - و بالتحريك -: الماء السائل. و سيأتي بيان هذه الخمسة عن الامام عليه السلام بعد شرح الجبر و التفويض و انهما خلاف العدل و العقل.

[28] سورة الكهف، الآية 49.

[29] سورة آل عمران، الآية 182.

[30] سورة يونس، الآية 44.

[31] سورة البقرة، الآية 81.

[32] سورة النساء، الآية 10.

[33] سورة النساء، الآية 56.

[34] سورة البقرة، الآية 85.

[35] سورة الأنعام، الآية 160.

[36] سورة آل عمران، الآية 30.

[37] سورة غافر، الآية 17.

[38] في بعض النسخ [و خطأ].

[39] في بعض النسخ [به الثواب].

[40] في بعض النسخ [من الطاعة].

[41] سورة الزمر، الآية 7.

[42] سورة آل عمران، الآية 102.

[43] سورة الذاريات، الآية 56.

[44] سورة الذاريات، الآية 57.

[45] سورة النساء، الآية 36.

[46] سورة الأنفال، الآية 20.

[47] سورة البقرة، الآية 85.

[48] في الاحتجاج [و ملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الأمر و النهي].

[49] سورة الزخرف، الآية 31.

[50] سورة الزخرف، الآية 32.

[51] سورة الأحزاب، الآية 36.

[52] التلعة: ما علا من الأرض.

[53] في بعض النسخ [الأسماء أهلها].

[54] رواه الكليني في الكافي ج 1 ص 156 و فيه [جزاك ربك بالاحسان احسانا].

[55] في بعض النسخ [عندي لراكبها ظلما و عصيانا].

[56] في بعض النسخ [و وافقه].

[57] في بعض النسخ [فصرف الآن].

[58] أي اختباره و امتحانه.

[59] أي صحة الخلقة. و تخلية السرب. و المهلة في الوقت. و الزاد. و السبب المهيج.