بازگشت

السرية في العمل


حينما تعيش الأمة أجواء الكبت و الارهاب، يلجأ العاملون في سبيل الله الي العمل من وراء الكواليس، لضرب و تحطيم النظام من حيث لا يشعر، و أي حركة معارضة في التاريخ كانت تتخذ من العمل السري أساسا لتحركاتها و تخطيطاتها، بهدف الاطاحة بالنظام الحاكم المستبد.

و في زمن الامام الهادي عليه السلام كانت الأجواء غير مساعدة للعمل بصورة علنية، حيث كانت الأجواء ملبدة بسحب الارهاب و الكبت، و من هنا فان الامام عليه السلام كان يعمل بصورة بالغة السرية، و قد تعرضت دار الامام للتفتيش عدة مرات الا أن السلطات لم تستطع أن تدين الامام بأي تهمة نتيجة لعدم حصولها علي أي مستمسك يدين الامام عليه السلام، من ذلك تفتيشه لدار الامام بعد وشاية البطحاني ضد الامام، تقول الرواية: «فلما كان بعد أيام سعي البطحاني أبي الحسن عليه السلام الي المتوكل، و قال: عنده أموال و سلاح، تقدم المتوكل الي سعيد الحاجب أن يهجم عليه ليلا و يأخذ



[ صفحه 88]



ما يجده عنده من الأموال و السلاح و يحمل اليه، قال ابراهيم بن محمد قال لي سعيد الحاجب: صرت الي دار أبي الحسن بالليل و معي سلم فصعدت منه الي السطح و نزلت من الدرجة الي بعضها في الظلمة فلم أدر كيف أصل الي الدار فناداني أبوالحسن عليه السلام من الدار يا سعيد مكانك حتي يأتوك بشمعة فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدت عليه جبة صوف و قلنسوة منها و سجادته علي حصير بين يديه أو هو مقبل علي القبلة فقال لي: دونك البيوت فدخلتها و فتشتها فلم أجد فيها شيئا، و وجدت البدرة مختومة بخاتم أم المتوكل و كيسا مختوما بخاتم أم المتوكل و كيسا مختوما معها. فقال لي أبوالحسن عليه السلام: دونك المصلي، فرفعته فوجدت سيفا في جفن ملبوس فأخدت ذلك و صرت اليه، فلما نظر الي خاتم أمه علي البدرة بعث اليها فخرجت اليه فسألها عن البدرة فأخبر بعض خدم الخاصة أنها قالت: كنت نذرت في علتك ان عوفيت أن أحمل اليه من مالي عشرة آلاف دينار، فحملتها اليه و هذا خاتمي علي الكيس ما حركه و فتح الكيس الآخر فاذا فيه أربعمائة دينار، فأمر أن يضم الي البدرة بدرة أخري، و قال لي: احمل ذلك الي أبي الحسن واردد عليه السيف و الكيس بما فيه، فحملت ذلك اليه و استحييت منه، فقلت له سيدي عز علي دخولي دارك بغير



[ صفحه 89]



اذنك و لكني مأمور [1] فقال لي: «و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» [2] .

من هذه الرواية يمكننا أن نستنتج عدة حقائق هي:

1- ان الامام كان يعد أصحابه للثورة، و قد قلنا سابقا: ان الامام كانت تصله الأموال من كل مكان حتي أن المتوكل أمر وزيره الفتح بن خاقان عندما سمع بأن الامام ستصله أموال من قم بمراقبة الوضع عن كثب!!

2- ان الامام كان يواجه حالة الهجوم علي بيته بحالة نفسية طبيعية جدا، و كأنه لم يعمل شيئا!! و في هذه الرواية نلاحظ أن الامام يدل المهاجم علي غرف بيته لتفتيشها!! و هذا يضعف المهاجم معنويا و نفسيا فلا يدقق في التفتيش!!

3- توجيه الامام لعدوه ليطلعه علي ما عنده من أسلحة، «فقال لي أبوالحسن: دونك المصلي فرفعته فوجدت سيفا في جفن ملبوس» و بالرغم من أن امتلاك الامام للسيف كان يعني شيئا خطيرا بالنسبة للسلطات الحاكمة، الا أن توجيه الامام لسعيد علي محل السيف قد أعطي السيف (شرعية حق التملك) و انه مجرد شي ء عادي لا يشكل أي خطر.



[ صفحه 90]



4- ان قلوب الناس كانت مع الامام، و الا ماذا يعني ارسال أم المتوكل للامام بعشرة آلاف دينار؟؟؟ كما أن نفس المهاجم و هو سعيد يعترف بأن الامام هو سيده: «فحملت ذلك اليه و استحييت منه فقلت له: (يا سيدي) عز علي دخولي دارك بغير اذنك» و هذا يعني أن الامام كان شخصية قيادية.

5- عدم قبول الامام لتبرير: فعندما قال المهاجم: (و لكني مأمور!!) أجابه الامام بآية قرآنية: «و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» [3] .

و هكذا يعيش بعض الناس علي الثقافة التبريرية، فهم يبررون كل أعمالهم، و يعدون الجواب سلفا تجاه أي خطأ يقومون به، لذلك فالامام يضرب علي الوتر الحساس فيقول: «و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» بمعني آخر: ان مثل هذا التبرير غير مقبول و ان ذلك العمل تعدي علي حقوق الآخرين، فهل يسمع أولئك الذين لا زالوا يتعاملون مع الأنظمة الطاغوتية و يتراجعون عن تبريراتهم الزائفة؟

و الذي يهمنا كثيرا في هذه الرواية هو عدم اكتشاف أي مستمسك أو وثيقة تدين الامام عليه السلام و ذلك لاتخاذ الامام عليه السلام كافة الاحتياطات الأمنية بعين الاعتبار.



[ صفحه 91]



«لقد كان الامام الهادي عليه السلام يفلح في كل مرة - يراد تفتيش بيته - باخفاء مكامن الشك عن الدولة، بالرغم مما كان يرده من الأموال و الكتب و ما كان يقوم به من اتصالات، و كان يستعمل أسلوبا رمزيا حينما يريد التعبير عن أمر محظور في نظر الدولة» [4] ، مثل استخدام الأساليب الرمزية أو ما يعبر عنه اليوم ب (الشفرة) و هذا يعني أن الامام كان يمارس تحركاته بشكل سري.

قضي الامام الهادي عليه السلام فترة امامته بين المدينة و بين سامراء عاصمة المتوكل، ففي الفترة التي كان يقيم في المدينة بدأ الامام نشاطه الذي استقطب أهل المدينة بشكل كامل، و كان الامام يراقب في ذلك خطوة بخطوة.... فلما بلغ الأمر حد الاستقطاب الكامل أرسل أحد عناصر المخابرات رسالة الي المتوكل.... جاء فيها ما يلي: «من بريحة الي المتوكل.... أما بعد فان كان لك حاجة بالحرمين فأخرج منهما علي بن محمد فانه قد دعا الناس الي نفسه و تبعه في ذلك خلق كثير» و عندما وصلته الرسالة مع تقارير أخري عن نشاطات الامام الخفية في المدينة، أشخص المتوكل الامام الهادي الي سامراء.



[ صفحه 92]



و هكذا وصل الامام الهادي الي عاصمة الخلافة، حيث فرضت عليه الاقامة الجبرية في منزله، و وضع تحت المراقبة ليل نهار، و كان منزل الامام يتعرض لحملات تفتيشية مباغتة، بحثا عن المال و الأسلحة، و لكن هل أوقف هذا عمل الامام و نشاطاته؟.... كلا! لقد مارس ذلك بشكل سري، و أوصي أتباعه بتجنب الشهرة و التزام العمل السري و التقية في هذه المرحلة الحرجة.

في أحد المرات أرسل اليه أحد أصحابه يسأله عن الفطرة، مقدارها و كيف يحملها اليه؟ فكتب اليه الامام: «الفطرة قد كثر السؤال عنها، و أنا أكره كل ما أدي الي الشهرة فاقطعوا ذكر ذلك و اقبض ممن دفعها اليك و امسك عمن لم يدفع».

نري الامام هاهنا يرفض الاجابة عن السؤال و يؤكد علي التزام التقية في هذا الأمر و الوقت، و أنه يكره كل ما يؤدي الي الشهرة و انكشاف مصادر التمويل، و بالتالي انكشاف نوعية العلاقات التي تربط الامام بأصحابه و وكلائه. و في سبيل ذلك نراه يستخدم مع أصحابه الأسلوب الرمزي فلا يتحدث أصحابه - فيما بينهم - عن الامام باسمه، و انما يضعون رمزا متفقا عليه بينهم، حيث يروي أحد أصحابه و هو محمد بن رجاء الأرجائي قال: «كتبت الي الطيب اني كنت في المسجد الحرام



[ صفحه 93]



فرأيت دينارا فأهويت لأخذه.... الي آخر الرواية التي يذكرها الكليني في الكافي، المجلد الرابع.

فبدلا من اسم الامام نراه يستخدم كلمة (الطيب) تقية، و آخرون يستخدمون كلمة (العبد الصالح) أو كلمة (الشيخ) أو غير ذلك لكيلا ينكشف اسم الامام و علاقاته معهم.

و عندما تحاول السلطة تشويه الفكر الاسلامي بتشجيع الغلاة و المرتزقة ليرووا عن الأئمة أحاديث كاذبة تجعل الأئمة في مصاف الآلهة، نري الامام يعلن براءته منهم و يحاول عبر طرقه السرية الخاصة أن يتخلص من الخطرين منهم، فنجده يخطط لاغتيال أحد كبارهم الخطرين المسمي فارس بن حاتم، حيث نصحه الامام فلم ينتصح، و تبرأ منه فلم يرتدع، فدبر له عملية اغتيال سرية ناجحة، قضي فيها عليه، و ذلك بأن أمر شخصا يسمي (جنيدا) باغتيال ذلك الرجل المغالي و فعلا تربص به حتي قتله. و لأن تخطيط الامام في هذا كان سريا، و ملتزما للتقية لذلك لم يكشف أمام السلطة» [5] .

اذن.... فالامام الهادي عليه السلام كان يحيط تحركاته و أعماله في ذلك الجو المكهرب بالقتل و العنف بالسرية و الكتمان، و كان يتحرك بسرية و هو يعيش بالقرب من قصر الحكم في سامراء و تحت الاقامة الجبرية!!



[ صفحه 94]



و عندما يعيش الناس أجواء الاستبداد و الدكتاتورية في أي زمان، و في أي مكان، فعليهم بالاقتداء بالامام الهادي عليه السلام الذي كان يعمل و لكم بسرية و كتمان من أجل نجاح ما كان يدعو اليه من أفكار و رؤي و قيم الاسلام، و العمل علي تغيير الأوضاع الفاسدة الي واقع يرتكز علي مرجعية الاسلام.



[ صفحه 95]




پاورقي

[1] الارشاد: ص 371.

[2] سورة الشعراء، الآية 227.

[3] سورة الشعراء، الآية 227.

[4] تاريخ الغيبة الصغري، ص 149.

[5] مفهوم التقية في الاسلام، ص 44.