بازگشت

مواقف رسالية


الشخصية المبدئية لا تساوم و لا تهادن حينما يتعلق الأمر بالمساومة أو المهادنة بالقيم و المبادئ، و لا تتنازل عن أهدافها المقدسة، بل تبقي صامدة و ثابتة في كل الظروف، و أمام كل العقبات، أما الشخصية (التجارية) فانها مستعدة لعقد صفقات البيع و الشراء علي حساب الدين و القيم!!

فالامام الهادي عليه السلام والذي هو قدوتنا و أسوتنا يقدم لنا نموذجا في كيفية تعامل الشخصية المبدئية مع الطواغيت....

فهلم بنا نتتبع مواقف الامام الهادي عليه السلام مع طواغيت عصره لنستفيد منها.

«سعي الي المتوكل بعلي بن محمد الجواد عليه السلام أن في منزله كتبا و سلاحا من شيعته من أهل قم، و أنه عازم علي الوثوب بالدولة، فبعث اليه جماعة من الأتراك فهجموا علي داره ليلا فلم يجدوا فيها شيئا و وجدوه في بيت مغلق عليه، و عليه مدرعة من صوف و في رواية من شعر، و هو جالس علي الرمل و الحصي و هو متوجه الي الله تعالي يتلو آيات من



[ صفحه 110]



القرآن. و في رواية يصلي و هو يترنم بآيات من القرآن في الوعد و الوعيد، فحمل علي حاله تلك الي المتوكل، و قالوا له: لم نجد في بيته شيئا و وجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، و كان المتوكل في مجلس الشرب فدخل عليه، و الكأس في يد المتوكل، فلما رآه هابه و عظمه و أجلسه الي جانبه و ناوله الكأس التي كانت في يده. فقال: والله ما يخامر لحمي و دمي قط فاعفني فأعفاه، فقال: أنشدني شعرا، فقال عليه السلام اني قليل الرواية للشعر. فقال: لابد. فأنشده عليه السلام و هو جالس عنده:



باتوا علي قلل الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فلم تنفعهم القلل



و استنزلوا بعد عز عن معاقلهم

و أسكنوا حفرا يا بئس ما نزلوا



ناداهم صارخ من بعد دفنهم

أين الأساور و التيجان و الحلل



أين الوجوه التي كانت منعمة

من دونها تضرب الأستار و الكلل



فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود يقتتل



قد طالما أكلوا دهرا و قد شربوا

فأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا





[ صفحه 111]





و طالما عمروا دورا لتسكنهم

ففارقوا الدور و الأهلين و انتقلوا



و طالما كنزوا الأموال و ادخروا

ففرقوها علي الأعداء و ارتحلوا



أضحت منازلهم قفرا معطلة

و ساكنوها الي الأحداث قد نزلوا



قال: فبكي المتوكل حتي بلت لحيته بدموع عينيه، و بكي الحاضرون، و دفع الي علي عليه السلام أربعة آلاف دينار ثم رده الي منزله مكرما» [1] .

هذا هو الامام الهادي عليه السلام والذي كان رمزا للرفض و الثورة و الجهاد؛ يقف هذا الموقف البطولي أمام طاغية من أشد الطغاة ارهابا و تنكيلا بالمؤمنين، انه المتوكل العباسي الذي قتل العلويين شر قتلة، و أباح دمهم، و أهدر حقوقهم، يقف الامام عليه السلام بكل شجاعة و بطولة ليعبر عن استنكاره و موقفه الرسالي الحازم، و يرفض أن ينساب عليه السلام مع هوي طاغية عصره، و عندما أنشد أبياتا من الشعر كانت موجهة توجيها دقيقا نحو عواطف و أحاسيس الانسان، انه الحديث عن الموت.... ذاك الهاجس الذي يخشاه الطغاة و يهابونه!!



[ صفحه 112]



ان الامام عليه السلام حينما تحدث عن الموت أشار الي قضايا مهمة مثل: الترف و البذخ، و اللامبالاة، و الاهتمام بزخارف الدنيا، و كنز الأموال و عدم انفاقها في سبيل الله ليرسل رسالة الي تلك الطبقة البرجوازية (المترفة) التي كانت مجتمعة عند المتوكل، و هو بذلك يثير قضية الابتعاد عن القيم و المبادئ، و ما يعني ذلك فيما بعد الموت من مخاطرة و مجازفة يرتكبها مثل هؤلاء الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.... انه العذاب الأليم و بئس المصير!!

ان الامام عليه السلام حينما أنشد هذه الأشعار أمام المتوكل و زبانيته لم تكن شيئا عاديا، بل كانت تعبر بوعي عن مواقف الامام، و من ثم معارضة الامام لحكم هؤلاء، و لك - عزيزي القارئ - أن تتصور وقع و أهمية هذه الأشعار لو استطعت أن تنشدها أمام طاغوت عصرك!!

اذن علينا أن نتخذ من الامام عليه السلام قدوة لنا في جهادنا و نشاطنا الدعوي، و أن لا نتنازل عن أهدافنا المقدسة، بل يجب علينا أن نعبر عن رفضنا لطواغيت عصرنا بكل الوسائل الممكنة: الشعر - النثر - القصة - الكتاب - المسرحية... الخ.

و موقف آخر يقدم لنا الامام عليه السلام فيه ما يجب أن يكون عليه المؤمن الرسالي من الشجاعة و القوة و الوعي بأهل زمانه... فقد جاء في الرواية:



[ صفحه 113]



«روي أبوسعيد سهل بن زياد قال: حدثنا أبوالعباس فضل بن أحمد بن اسرائيل الكاتب و نحن في داره بسامراء فجري ذكر أبي الحسن عليه السلام فقال: يا أباسعيد اني أحدثك بشي ء حدثني به أبي قال: كنا مع المعتز و كان أبي كاتبه فدخلنا الدار، و اذ المتوكل علي سريره قاعد، فسلم المعتز و وقف و وقفت خلفه، و كان عهدي به اذا دخل رحب به و يأمره بالعقود فأطال القيام، و جعل يرفع رجلا و يضع أخري و هون لا يأذن له بالقعود..

و نظرت الي وجهه يتغير ساعة بعد ساعة و يقبل علي الفتح ابن خاقان و يقول: هذا الذي تقول فيه ما تقول، و يردد القول، و الفتح مقبل عليه يسكنه و يقول: مكذوب عليه يا أميرالمؤمنين و هو يتلظي و يقول: والله لأقتلن هذا المرائي الزنديق و هو يدعي الكذب، و يطعن في دولتي، ثم قال: جئني بأربعة من الخزر فجي ء بهم و دفع اليهم أربعة أسياف، و أمرهم أن يرطنوا بألسنتهم اذا دخل أبوالحسن عليه السلام و يقبلوا عليه بأسيافهم فيخبطوه، و هو يقول: والله لأحرقنه بعد القتل، و أنا منتصب قائم خلف المعتز من وراء الستر.

فما علمت الا بأبي الحسن عليه السلام قد دخل، و قد بادر الناس قدامه، و قالوا: قد جاء و التفت فاذا أنا به و شفتاه يتحركان، و هو غير مكروب و لا جازع، فلما بصر به المتوكل



[ صفحه 114]



رمي بنفسه عن السرير اليه، و هو سبقه، و انكب عليه فقبل بين عينيه و يده، و سيفه بيده، و هو يقول: يا سيدي يا ابن رسول الله يا خير خلق الله يا ابن عمي يا مولاي يا أباالحسن!! و أبوالحسن عليه السلام يقول: أعيذك يا أميرالمؤمنين بالله (اعفني) من هذا، فقال: ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت، قال: جاءني رسولك، فقال: المتوكل يدعوك؟ فقال: كذب ابن الفاعلة ارجع يا سيدي من حيث شئت يا فتح! يا عبيدالله! يا معتز! شيعوا سيدكم و سيدي!!!

فلما بصر به الخزر خروا سجدا مذعنين فلما خرج دعاهم المتوكل ثم أمر الترجمان أن يخبره بما يقولون، ثم قال لهم: لم لم تفعلوا ما أمرتم؟ قالوا شدة هيبته رأينا حوله أكثر من مائة سيف لم نقدر أن نتأملهم، فمنعنا ذلك عما أمرت به، و امتلأت قلوبنا من ذلك، فقال المتوكل: يا فتح هذا صاحبك، و ضحك في وجه الفتح و ضحك الفتح في وجهه، فقال: الحمد لله الذي بيض وجهه، و أنار حجته» [2] .

ان نظرة تأمل في هذه الرواية تعطينا درسا نموذجيا في أن المؤمن الصادق و المخلص فرد يمتلك (الوعي) و (البصيرة) و كل مقومات الشخصية الرسالية المبدئية، و لذا فان المؤمن



[ صفحه 115]



الرسالي قوة معنوية يخشاها الطاغوت و كل مؤسساته التي يقوم عليها....!!

أيها القارئ العزيز:

لا يكفي أن تطالع هذه الرواية مرة واحدة، كما لا يكفي أن تقرأ هذه الرواية قراءة سطحية، بل عليك أن تطالع ما وراء السطور، فنظرة تأمل في هذه الرواية توضح لنا الأبعاد القيادية في شخصية الامام الهادي عليه السلام و أنه كان يشكل (قوة) يخشاها المتوكل و كل زبانيته، بل ان المتوكل من هلعه و خوفه من الامام يعترف للامام بمكانته القيادية الشرعية «ارجع يا سيدي من حيث شئت، يا فتح يا عبيدالله! يا معتز! شيعوا سيدكم و سيدي» و أيضا «فلما بصر به المتوكل - أي الامام - رمي بنفسه عن السرير اليه، و هو سبقه، و انكب عليه فقبل بين عينيه و يده، و سيفه بيده، و هو يقول يا سيدي.... يابن رسول الله..

يا خير خلق الله... يابن عمي.. يا مولاي يا أباالحسن!!»

و متي كان النظام يتعامل مع المعارضة بهذا التعامل؟ بل مع قيادة المعارضة؟ و مفجر الأوضاع في وجه السلطات؟؟!

و لكن وراء الأكمة ما وراءها.. فالامام ليس شخصا عاديا يمكن أن ينفذ المتوكل فيه ما يريد!! و لو كان المتوكل يستطيع أن ينال من الامام لما تواني أن امتنع عن ذلك.



[ صفحه 116]



و في وقتنا المعاصر نجد أن الاستعمار و كذلك الطواغيت في كل مكان يريدون من المؤمن أن يتحول الي فرد (طيب خير) بالمفهوم السلبي و كما يقول المثل (كاف عاف) لا يتدخل في شي ء حتي و لو كان يعنيه!!، و يبتعد عن كل شي ء في هذه الحياة الدنيا، و يتعامل مع الآخرين حتي ولو كانوا أشرارا ببرودة مفرطة!!

و لكن المؤمن الرسالي يأبي ذلك، لأن لديه رسالة، و يدعو الي الاسلام كمنهج للحياة، و يرفض الخضوع للطواغيت و ذلك اقتداء بالامام الهادي عليه السلام.



[ صفحه 117]




پاورقي

[1] في رحاب أئمة أهل البيت: ص 178 / ج 4.

[2] بحارالأنوار: ج 50 ص 196، رقم 8.