بازگشت

التمهيد


كان الأب يحس و كأنه متعب كثيرا، و هو لا يعلم سببا لكل ما يشعر به و يحس، و كثيرا ما كان يسائل نفسه عن هذا الشعور، فلم يصل به التساؤل الا الي سبب واحد، هو فعل الزمان و مرارة السنين، فيفوض أمره لمن بيده الأمر وحده، و يرجوه اللطف فيه، و الرحمة اياه.

كان احساس الأب سببا في عدم استمراره للحديث مرة بعد أخري، و ان كان ذلك لا يدوم طويلا، و بينما هو في احدي الأمسيات جالسا مع أبنائه يتسامرون كعادتهم قبل أن يلجأ كل واحد منهم الي فراشه، خطر علي بال الابن الأوسط أن يذكر أباه عن أشياء وعدهم بها و لم يؤدها لهم، فقال: كانت منك ثلاثة و عود يا أبي قلت لنا عن كل واحد منها أنك ستحدثنا عنه في حينه، و لم تحدثنا عن أي منها منذ فترة، تري ألم يحن وقت الحديث عن واحدة منها يا أبي؟

فقال الأب: و ما هي هذه الوعود يا ولدي؟

فقال الابن الأوسط: قلت لنا مرة ستحدثنا عن الكفيفية التي دخل بها الاستعمار وطننا العربي عامة، و القطر العراقي خاصة، و قد فات وقت طويل، و لم تحدثنا بذلك يا أبي، هذا أولا.



[ صفحه 8]



و ثانيا: وعدتنا في الحديث عن القضية الفلسطينية، منذ بدايتها حتي وقتنا الحاضر هذا، و لم تتحدث عنها بالتفصيل كما وعدتنا الي هذا اليوم.

و ثالثا: حينما حدثتنا عن الامام الجواد عليه السلام، قلت في آخر الحديث أنك ستحدثنا عن ابنه الامام علي الهادي عليه السلام، و كذلك لم تحدثنا عنه الي الآن، ثم قال الابن: و قد طال انتظارنا للحديث عما كنت قد وعدتنا سابقا، و نخشي أن يطول كذلك انتظارنا للحديث عن الامام علي الهادي عليه السلام.

لقد أحس الأب، بكثير من الحرج من أبنائه و ذلك لكونه لا يريد أن يكون أمامهم غير وفيا بما يعد، علما أنه يؤمن أن احترام العهود أمر يجب أن يتقيد به أي مسلم، و أن عدم الوفاء بها اضافة الي كونه ليس من الخلق القويم، فهي صفة مذمومة لا يجب أن يراه أبناؤه موصوفا بها، و فوق هذا و ذلك فقد وردت أوامر عديدة بخصوص ذلك، أمر بها الله تعال عباده المؤمنين بقوله تعالي: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر من ءامن بالله و اليوم الأخر و الملئكة و الكتب و النبيين و ءاتي المال علي حبه ذوي القربي و اليتمي و المسكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلوة و ءاتي الزكوة و الموفون بعهدهم اذا عهدوا و الصبرين في البأسآء و الضرآء و حين البأس أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون (177)) (سوره البقرة: الآية: 177).

و قوله تعالي: (بلي من أوفي بعهده و اتقي فان الله يحب المتقين (76)) (سورة آل عمران: الآية: 76).

و قال تعالي: (و الذين هم لأمنتهم و عهدهم راعون (8)) (سورة المؤمنون: الآية: 8).



[ صفحه 9]



و قال تعالي: (و الذين هم لأمنتهم و عهدهم راعون (32)) (سورة المعارج: الآية: 32).

و لكي يكون الأبناء علي بينة من ذلك قال الأب:

بالنسبة للحديث عن الاستعمار و الصهيونية و اغتصاب فلسطين من أهلها العرب، لا أقول أن وقت الحديث عن ذلك لم يحن بعد، بل هو حان منذ أن دخل الاستعمار أرضنا العربية، و بذلك صار لزاما علي كل أب أن يحدث أبناءه عن هذا الغزو الوحشي و الظالم الذي تلبس بثوب الانسانية و الحرص علي تقدم الشعوب و الأخذ بأيديهم من الجهل و الفقر و المرض، ليرتقي بهم الي مصافي الشعوب المتقدمة، في وقت أخفوا فيه نواياهم الحقيقية التي أقل ما تمثلت به هو نهب الخيرات، و ما هبة الاستعمار للأرض الفلسطينية للصهاينة الا مثال آخر علي ظلمهم و وحشيتهم و كذب ادعاءاتهم في كونهم يسعون الي الأخذ بأيدي الشعوب نحو التقدم و الرفاهية.

ثم قال الأب متابعا حديثه: كيف لم يحن الوقت يا ولدي، و هو الواجب الذي لا ينس و لن ينس، و علي الآباء أن يطلعوا أبناءهم دوما علي حقيقته مهما تعاقبت الأجيال، و مهما طال الزمن، و هل أوجب علي الآباء من أن يعرفوا أبناءهم علي أعدائهم؟ كي يحذروهم و يأخذوا أهبتهم منهم.

ثم قال الأب: ألا تعلموا أن الاسم الذي سموا أنفسهم به، هو كذبة بحد ذاته حاولوا بها ايهام الشعوب و تضليلها.

فقال الابن الأكبر: أي اسم تعني به يا أبي؟

فقال الأب: لقد أطلقوا علي أنفسهم اسم المستعمرين، أليس كذلك؟



[ صفحه 10]



فقال الابن: نعم، هم المستعمرون، و دولهم دولا استعمارية.

فقال الأب: أتعرف ما تعني كلمة مستعمرين أو استعمارية؟ المستعمر يا ولدي هو من يعمل علي الاعمار و البناء و التقدم، و هم حينما أطلقوا ذلك علي أنفسهم ليوهموا الشعوب بأنهم بانين للدول التي دخلوها و ليسوا فاتحين لها، لكي يمتصوا بذلك غضب الشعوب، و بناء علي هذه التسمية تكون الدول الفاتحة دولا جاءت من أجل البناء و الاعمار و العمل علي تقدم الشعوب، و بذلك فهي استعمارية، هكذا كانت خدعتهم يا ولدي.

الابن الأكبر: هذا يعني أنهم ليسوا بأهل حتي لهذ التسمية يا أبي.

فقال الأب: نعم يا ولدي، هم ليسوا بأهل لها، و انما هم أهل لأن نطلق عليهم مصاصي دماء الشعوب و ناهبي خيراتها و العاملين علي تخلفها.

ثم تابع الأب حديثه قائلا: أما بالنسبة لفلسطين يا ولدي فهي الأرض السليبة التي وهبها الاستعمار للصهيونية لتكون دولة لليهود، و التي طرد أهلها الأصليون من أراضيهم و ديارهم و شردوا هنا و هناك، دون وطن و بلا هوية، فهل تعتقد أن عربيا ينس يوما أن له أرضا سلبت و وهبت لشرذمة من الناس، ما وجدت سيئة علي هذه الأرض الا و كانت لهم اليد الطولي فيها.

ثم قال الأب: أتعلم يا ولدي، أن هناك أراض غير أرض فلسطين قد نهبت من العرب، و وهبها الاستعمار لدول أخري حاول من خلالها تمرير مؤامراته علي الشعوب العربية.

فقال الابن الأكبر بكثير من الاستغراب: و هل هناك غير أرض فلسطين يا أبي سلبت منا نحن العرب؟



[ صفحه 11]



فقال الأب: نعم يا ولدي، هناك غير فلسطين، و كل ذلك سنتحدث به يوما بشي ء من التفصيل.

فقال الابن الأكبر: و لكن يا أبي لم نسمع بغير فلسطين تذكر في الاذاعات العربية؟

فقال الأب: أما تعلم يا ولدي أن البعض لو كان بامكانهم عدم ذكر فلسطين في وسائل اعلامهم لفعلوا؟ و هل ضياع كل ذلك الا من أمثالهم؟

ثم تابع الأب حديثه قائلا: هناك حقائق مرة يا ولدي مخزونة في الصدور، كانت قد حدثت في الماضي، و ما أظن الا مثلها في طريقه للحدوث، و لكن لا، لا يمكن أن يحدث مثل ذاك، فالشعب العربي ما عاد كما كان في الماضي مغشيا علي بصره و بصيرته، و أن هناك من لم يزل مخلصا وفيا، و عربيا أصيلا، يأبي الضيم و يحمل من الاستعداد للتضحية من أجل الأرض و الأمة، ما لا يمكن أن يستهان به، و حوله الكثير من الشرفاء الذين استهوتهم التضحية و الفداء و العزة.

الابن الأكبر: و من تعني به يا أبي؟

الأب: أعني به كل مخلص غيور احتل مكانا قياديا في هذه الأمة، فهم أملها، و هم الأصلاء منها، و هم من سيأخذوا بأيدي اخوانهم نحو مستقبل مشرف تسوده سيادة العربي علي أرضه و خيرات بلده، و ما ضاع حق و لن يضيع ما دام واءه مطالب.

ثم قال الأب: كل ذلك يا أبنائي آليت علي نفسي أن أعلمكم به، كي تكونوا علي بينة من كل صغيرة و كبيرة تتعلق بوطنكم و بأمتكم، و اعلموا أن هذا و ذاك له علاقة وثيقة بدينكم الاسلامي،



[ صفحه 12]



و أن كل المؤامرات و الدسائس مثلما كان هدفها الأرض و الخيرات فهدفها أيضا دينكم.

نعم يا أبنائي يجب أن تعلموه جميعا لأنكم رجال المستقبل، و عماد الأمة، و أن كل ما لم يقدر عليه جيلنا لا قدر الله فهو مسؤوليتكم، و يجب أن يكون همكم، فمن لا وفاء له لأرضه و أمته و دينه فلا يستحق أن ينتمي اليها أو يعيش في ربوعها أو يتسمي باسمها.

ثم تابع الأب حديثه قائلا: أما بالنسبة للحديث عن الأئمة من آل البيت النبوي الأطهار عليهم السلام، و لا أستثني منهم أحدا ان شاء الله تعالي، فهم القدوة و الأسوة التي يجب أن تتعرفوا علي سيرة حياتهم، لنستلهم منهم الوفاء و الصدق و التضحية و الايمان، و ما ابطائي في الحديث الا لأستعيد شيئا من نشاطي، و ألملم بعض عافيتي التي بعثرتها الأيام، و أضعفتها السنون دون رحمة منها.

و هنا أطرق الابن الأوسط خجلا من نفسه باستعجاله أباه بالحديث، دون أن يفكر بأبيه و كبره، و وجوب نيله شيئا من الراحة بين الحين و الآخر.

فلاحظ الأب حرج ابنه، و حز في نفسه أن يتألم ابنه من حساب ضميره و لومه اياه، و لكي يخرجه من حرجه و تعذيب ضميره قال الأب: ما رأيكم لو بدأنا الحديث من هذا اليوم عن الامام علي بن محمد بن علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

فقال الابن الأوسط: نعم يا أبي، لنبدأ الحديث عنه عليه السلام من هذا اليوم.



[ صفحه 13]



فقال الأب مخاطبا ابنه الأكبر: و ما رأيك أنت يا ولدي؟

فقال الابن الأكبر: الرأي رأيك يا أبي، و أنا آسف عن كل ما بدر من أخي، و آسف أيضا لأنه قال ما قال دون أن يفكر ان كان الوقت مناسبا للحديث أم لا.

فقال الأب: لا عليك يا ولدي، فالحياة مدرسة لابن آدم، و خيرهم من تعلم من هذه المدرسة ما ينفعه في الدنيا و الآخرة، و لا تنس أن أخاك لم يزل في الصفوف الأولي من هذه المدرسة.

ثم قال الأب: و الآن لنبدأ حديثنا و نسأل الله أن يعيننا علي سلوك الصواب قولا و فعلا.



[ صفحه 14]