بازگشت

برك الماء


و ما دمنا في البحث عن قصور المتوكل، فمن المستحسن أن نشير الي برك الماء التي الحقها في قصوره، فقد تفنن هو و سائر ملوك العباسيين في تزيينها فقد زينت بالصور و التماثيل الجميلة، و جعلوا فراش بعضهم مكللة بالجوهر كما غشوا ظاهرها و باطنها بصفائح الفضة [1] و قد وصف البحتري بعضها بقوله:



يا من رأي البركة الحسناء رؤيتها

و الآنسات اذا لاحت مغانيها



بحسبها أنها من فضل رتبتها

تعد واحدة و البحر ثانيها



ما بال دجلة كالغيري تنافسها

في الحسن طورا و اطوارا تباهيها



أما رأت كالي ء الاسلام يكلؤها

من ان تعاب و باني المجد يبنيها



كأن جن سليمان الذين ولوا

ابداعها فأدقوا في معانيها



فلو تمر بها بلقيس عن عرض

قالت: هي الصرح تمثيلا و تشبيها



تصب فيها وفود الماء معجلة

كالخيل خارجة من حبل مجريها



كأنما الفضة البيضاء سائلة

من السبائك تجري في مجاريها



اذا علتها الصبا أبدت لها حبكا

مثل الجواشن مصقولا حواشيها





[ صفحه 317]





فحاجب الشمس احيانا يضاحكها

وريق الغيث احيانا يباكيها



اذا النجوم تراءت في جوانبها

ليلا حسبت سماء ركبت فيها



لا يبلغ السمك المحصور غايتها

لبعد ما بين قاصيها ودانيها



يعمن فيها بأوساط مجنحة

كالطير تنقض في جو خوافيها



لهن صحن رحيب في اسافلها

اذا انحططن و بهو في اعاليها



صور الي صورة الدلفين يؤنسها

منه انزواء بعينيه يوازيها



تغني بساتينها برؤيتها

عن السحائب منحلا عزاليها



كأنها حين لجت في تدفقها

يد الخليفة لما سال واديها



و زادها رتبة من بعد رتبتها

ان اسمه يوم يدعي من اساميها



محفوفة برياض لا تزال تري

ريش الطواويس تحكيه و تحكيها



وودكتين كمثل الشعرين غدت

احداهما بازا الأخري تساميها [2] .



و المت هذه القصيدة بوصف رائع و دقيق لمحاسن هذه البركة التي أنشئت علي اروع تصميم هندسي في ذلك العصر.

و وصف علي بن الجهم بركة في القصر الهاروني، و هو من قصور الواثق العباسي قال:



أنشأتها بركة مباركة

فبارك الله في عواقبها



حفت بما تشتهي النفوس لها

و حارت الناس في عجائبها



لم يخلق الله مثلها وطنا

في مشرق الأرض أو مغاربها



كأنها و الرياض محدقة

بها عروس تجلي لخاطبها



من أي اقطارها أتيت رأيت

الحسن حيرانا في جوانبها



للموج فيها تلاطم عجب

و الجزر و المد في مشاربها



قدرها الله للامام و ما

قدر الله فيها عيبا لعائبها





[ صفحه 318]





أهدت اليها الدنيا محاسنها

و اكمل الله حسن صاحبها [3] .



و كانت تلك البرك مسرحا للهو ملوك العباسيين وانسهم و عبثهم و سخريتهم بالناس، فقد أمر المتوكل بالقاء عبادة المخنث في احدي تلك البرك، و كان الوقت شديد البرد، فأشرف عبادة علي الموت، فامر المتوكل باخراجه، و أمر له بكسوة فلبسها، وادناه منه، و قال له:

«كيف انت؟ و كيف حالك؟...».

فقال عبادة: جئت من الآخرة.

وضحك المتوكل و قال:

«كيف تركت أخي الواثق؟...».

فقال عبادة: لم امر بجهنم.

وضحك المتوكل و امر له بصلة [4] و من طريف ما كان يفعله المتوكل بابن العبرة الشاعر الأحمق، فقد كان يرمي به في المنجنيق، فاذا علا في الهواء يقول: الطريق جاءكم المنجنيق، ثم يقع في البركة، فتطرح عليه الشباك و يصاد كما تصاد الاسماك [5] .

و بدل ان يصرف المتوكل وقته في خدمة الشعوب الاسلامية، و يعمل فيما يوجب تطورها، و ازدهار حياتها، و تقدمها في الميادين الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية، انه لم يفكر في ذلك، و انما قضي اوقاته في امثال هذه الترهات، كما قضي معظم ايامه في اللهو و المجون فكانت قصوره مسرحا للغناء و شرب الخمور و تعاطي المنكرات.



[ صفحه 319]




پاورقي

[1] نهاية الارب 1 / 406.

[2] ديوان البحتري 1 / 36 - 35.

[3] ديوان علي بن الجهم (ص 32).

[4] العقد الفريد 6 / 430.

[5] فوات الوفيات 2 / 356 للكتبي.