بازگشت

اعتقال و براهين بين يثرب و دار السلاطين


... و جاء المتوكل [1] - عدو العلويين اللدود - الي الحكم، فأخذ يجتهد في ايجاد حيلة للايقاع بالامام عليه السلام و البطش به، فيدفع الله تعالي عنه شره... و يحاول الحط من قدره في أعين الناس، فيرفعه سبحانه و يلقي كيد الخليفة في نحره فلا يصل الي بغيته و يبقي غله في صدره و يعجز عن النيل من كرامة ولي الله في أرضه... فيضطر الي اكرامه و اجلاله و تفديه و الاحسان اليه صاغرا كلما حاول أن ينتقص منه أو يهينه، اذ كان الامام عليه السلام يريه من علمه و فضله و آياته ما يبطل مكره و يهلع منه فؤاده و يختبط عقله كما ستري...



[ صفحه 88]



و كذلك كان عملاء العرش و أعوان الحاكم الظالم يدعون علي الامام عليه السلام بما ليس فيه، و ينمون و يفترون، و يتهمونه بأمور لم يفعلها، تزلفا لأميرهم و طمعا في لذائذ دنياه و مل ء كروشهم التي لا تشبع ازدراد الحرام، فيبير الله سبحانه مكائدهم و يرد حقدهم في قلوبهم، و يبقي ذلك شجا تغص به لهواتهم فيعانون مرارتها و يقاسون حرقتها...

فمن ذلك أن بريحة العباسي كتب الي المتوكل: «ان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما، فانه قد دعا الناس الي نفسه و اتبعه خلق كثير... ثم بعث بالكتاب الي المتوكل، فأنفذ يحيي بن هرثمة و كتب معه الي أبي الحسن - أي الامام عليه السلام - كتابا جيدا يعرفه أنه قد اشتاق اليه، و سأله القدوم عليه، و أمر يحيي بالمسير اليه، و كتب - كذلك - الي بريحة يعرفه الأمر. و كان ذلك سنة ثلاث و أربعين و مئتين للهجرة النبوية الشريفة [2] .

فقدم يحيي المدينة، و بدأ ببريحة و أوصل الكتاب اليه. ثم ركبا جميعا الي أبي الحسن عليه السلام و أوصلا اليه كتاب المتوكل، فاستأجلهما ثلاثة أيام...

فلما كان بعد ثلاثة عادا الي داره، فوجدا الدواب مسرجة، و الأثقال مشدودة قد فرغ منها. فخرج صلوات الله عليه متوجها الي العراق و معه يحيي بن هرثمة» [3] .

و لو سألنا بريحة النمام الزنيم - فيما بينه و بين الله - هل كانت كتابته الي المتوكل غيرة علي الدين و حفظا لبيضة الاسلام و بدافع حق و عن صدق،



[ صفحه 89]



و هل سمع الامام يدعو الي نفسه في سر أو علن، أو في تصريح أو تلميح، أو وقف له علي نشاط استعمل فيه رسلا و بث أرصادا، أو اتخذ لنفسه أمناء وسعاة و دعاة؟!. أقول لو سألنا هذا العتل عن ذلك و أقسمنا عليه بما يدين به من صنمية «الوظيفة» لوقف و اجما لا يحير جوابا و لا يرد علي سؤال، و لبرز علي حقيقته عاريا لم يفعل ذلك الا خدمة أمنية لبطنه و فرجه لا أمانة لصاحبه... اذ يا ليته كان يحمل أمانة الكلب لصاحبه الذي يملأ بطنه.

و في رواية ثانية نقع علي واش ثان كان نصيبه العزل من مركز ولاية أمور أهل المدينة المنورة لمجرد اشارة من الامام عليه السلام.

فقد قال في الارشاد: «و كان سب شخوص أبي الحسن عليه السلام من المدينة الي سر من رأي [4] أن عبدالله بن محمد كان يتولي الحرب و الصلاة بمدينة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، فسعي بأبي الحسن عليه السلام الي المتوكل، و كان يقصده بالأذي.

و بلغ أباالحسن سعايته به، فكتب الي المتوكل يذكر تحامل عبدالله بن محمد عليه، و كذبه فيما سعي به، فتقدم المتوكل - أي أمر - باجابته عن كتابه، و عائه فيه الي حضور «العسكر» - سر من رأي - علي جميل من الفعل و القول، فخرجت نسخة الكتاب التي بعثها مع يحيي بن هرثمة مع ثلاثمئة رجل (و أخذت من يحيي بن هرثمة سنة ثلاث و أربعين و مئتين) و هي:

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فان أميرالمؤمنين عارف بقدرك، وراع لقرابتك موجب لحقك، مقدر من الأمور فيك و في أهل بيتك ما يصلح



[ صفحه 90]



الله به حالك و حالهم، و يثبت عزك و عزهم، و يدخل اليمن - الأمن - عليك و عليهم، يبتغي بذلك رضي ربه و أداء ما افترض عليه فيك و فيهم.

و قد رأي أميرالمؤمنين صرف عبدالله بن محمد عما كان يتولاه من الحرب و الصلاة بمدينة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم اذ كان علي ما ذكرت من جهالته بحقك و استخفافه بقدرك، و عندما قرفك به - أي اتهمك - و نسبك اليه من الأمر الذي قد علم أميرالمؤمنين براءتك منه و صدق نيتك في برك و قولك، و أنك لم تؤهل نفسك لما قرفت - اتهمت - بطلبه. و قد ولي أميرالمؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، و أمره باكرامك و تبجيلك و الانتهاء الي أمرك و رأيك، و التقرب الي الله و الي أميرالمؤمنين بذلك.

و أميرالمؤمنين مشتاق اليك يحب احداث العهد بك و النظر الي وجهك!. فان نشطت لزيارته و المقام قبله ما أحببت، شخصت و من اخترت من أهل بيتك و مواليك و حشمك علي مهلة و طمأنينة، ترحل اذا شئت، و تنزل اذا شئت، و تسير كيف شئت.

و ان أحببت أن يكون يحيي بن هرثمة، مولي أميرالمؤمنين، و من معه من الجند مشيعين لك، يرحلون برحيلك، و يسيرون بمسيرك، فالأمر بذلك اليك - و قد تقدمنا اليه بطاعتك، فاستخر الله حتي توافي أميرالمؤمنين، فما من أحد من اخوانه و ولده و أهل بيته و خاصته ألطف منه منزلة، و لا أحمد منه أثرة، و لا هم لهم أنظر، و لا عليهم أشفق و بهم أبر و اليهم أسكن منه اليك، و السلام عليك و رحمة الله و بركاته. و كتب ابراهيم بن العباس، و صلي الله علي محمد و آله و سلم، في شهر جمادي الآخرة من سنة ثلاث و أربعين و مئتين.

فلما وصل الكتاب الي أبي الحسن عليه السلام، تجهز للرحيل. و خرج معه يحيي بن هرثمة حتي وصل الي سر من رأي.



[ صفحه 91]



فلما وصل اليها تقدم المتوكل بأن يحجب عنه في يومه، فنزل في خان يعرف بخان الصعاليك، و أقام فيه يومه. ثم تقدم المتوكل بافراد دار له فانتقل اليها» [5] .

و سنتكلم حول نزوله في خان الصعاليك قريبا ان شاء الله تعالي

و هذا الكتاب المنمق الملي ء بالملق و التودد باللسان بما ليس في القلب، يشبه زخرف قول «المبصرين و المشعوذين»: أقرأ تفرح، جرب تخزن!. فاذا أردت أن تفهم فحواه و حقيقة مغزاه، فاقرأه مستعملا أضداد كلماته لتقف علي صريح هدفه و معناه: فالمتوكل لا يرعي قرابة الامام و لا يحفظ حقه، و لا يقدر له و لا لآله ما يصلح حاله و حالهم، و لا يمنحهم أمنا و لا يبتغي بهم رضي ربه!. و اذا عزل و اليه و أقام غيره و أمره باكرام الامام والائتمار بأمره فلم استقدمه من المدينة و «اشتاق» اليه و الي النظر الي وجهه قبل أن يستلم الوالي الجديد منصبه؟. و لماذا بعث بثلاثمئة جندي لمرافقته؟... ستري آيات بره و الاشفاق عليه، فانه يجسد غل العباسيين علي العلويين أعظم تجسيد، و يحمل من الحقد عليهم ما لم يحمله المأمون و لا أبوه من قبل... و هو:



يعطيك من طرف اللسان حلاوة

و يروغ منك كما يروغ الثعلب



قد فرش الطريق للامام بالورود، و جعل تحت الزهور شوك القتاد!. و مد في الشارع العام بساطا أحمر... ليدوس الامام عليه السلام في كل خطوة علي خنجر!. و أحضر الامام - كذلك - محاطا بجند و سلاح!. و اقتيد بقوة الي



[ صفحه 92]



ذلك «المشتاق» اليه، الحريص علي راحته الذي تعمد أن يكون دخوله الي سر من رأي بحيث لا يعلم بوصوله أحد!. و أمر جواسيسه أن لا يعلن خبر قدومه... ثم تقدم بأن يحجب عنه في يوم وصوله فألجاه الي النزول في خان الصعاليك!.

فما أكذب شوق هذا «المشتاق»، الواضح النفاق!. و ما أعظم خان الفقراء و الصعاليك حين و طأته قدما الامام، و ما أحكم خطته ينزوله فيه ليري القاضي و الداني أن هذا «المستقدم» قسرا أريدت اهانته... و أنه لا يطمع في دنيا القوم و لا في الباطل الذي هم فيه و أن «الخان الحقير» الذي نزل فيه صار للفور قطب رحي العلم و الفضل و الحكمة بعد أن كان خانا للصعاليك!.

ان حقيقة اشخاصه عليه السلام الي سامراء، هي ما ذكره سبط بن الجوزي الذي قال:

«قال علماء السير: و انما أشخصه المتوكل من مدينة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) الي بغداد، لأن المتوكل كان يبغض عليا و ذريته. فبلغه مقام علي بالمدينة و ميل الناس اليه، فخاف منه. فدعا يحيي بن هرثمة و قال: اذهب و انظر في حاله، و أشخصه الينا.

قال يحيي: فذهبت الي المدينة، فلما دخلتها ضج أهلها ضجيجا عظيما منا سمع الناس بمثله خوفا علي علي (عليه السلام) و قامت الدنيا علي ساق لأنه كان محسنا اليهم، ملازما للمسجد، لم يكن عنده ميل الي الدنيا... فجعلت أسكنهم و أحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه و أنه لا بأس عليه... ثم فتشت منزله فلم أجد فيه الا مصاحف و أدعية و كتب العلم، فعظم في عيني و توليت خدمته بنفسي و أحسنت عشرته.

فبينا أنا نائم في يوم من الأيام - أثناء المسير الي العراق - و السماء صاحية و الشمس طالعة، اذ ركب و عليه ممطر و قد عقد ذنب دابته!.



[ صفحه 93]



فتعجبت من فعله، فلم يكن من ذلك الا هنيهة حتي جاءت سحابة فأرخت عزاليها و نالنا من المطر أمر عظيم جدا!. فالتفت الي فقال: أنا أعلم أنك أنكرت ما رأيت و توهمت أني أعلم ما لم تعلمه، و ليس ذلك كما ظننت. و لكني نشأت بالبادية، فأنا أعرف الرياح التي تكون في عقبها المطر، فلما أصبحت هبت ريح لا تخلف، و شممت منها رائحة المطر فتأهبت لذلك.

فلما قدمت به بغداد بدأت باسحاق بن ابراهيم الطاهري - و كان واليا علي بغداد - فقال لي: يا يحيي، ان هذا الرجل قد ولده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. و المتوكل من تعلم!. فان حرضته عليه قتله و كان رسول الله خصمك يوم القيامة!. فقلت له: و الله ما وقفت منه الا علي كل أمر جميل.

ثم سرت به الي سر من رأي، فبدأت «بوصيف التركي» فأخبرته بوصوله، فقال: و الله لئن سقط منه شعرة لا يطالب به سواك، و لا يكون المطالب بها غيري!. فتعجبت كيف وافق قوله قول اسحاق.

فلما دخلت علي المتوكل سألني عنه، فأخبرته بحسن سيرته، و سلامة طريقه، و ورعه و زهادته، و أني فتشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف و كتب العلم، و أن أهل المدينة خافوا عليه. فأكرمه المتوكل و أحسن جائزته و أجزل عطاءه، و أنزله معه سر من رأي» [6] .

فلو كان هذا «المعتقل» قد سيق الي «مشتاق» اليه من سلاطين بني عمومته - غير محاط بالجند و الرقباء - لما خاف عليه اسحاق بن ابراهيم، و لا خشي قتله «وصيف» التركي، و لا احتمل ضرره بر و لا فاجر... ولكنه جي ء به «محمولا» بتجلة السيوف... و عرف الكل أن أسرة السفاحين السمامين غير



[ صفحه 94]



مأمونة علي سلامته. فعبر عن ذلك اسحاق الطاهري... و أنذر «وصيف» التركي من مغبة الفتك به... لأنهما يستطيعان الكلام... و غيرهما في فمه «طعام» القصر... أو «لجام» القسر!.

أما ما بين يثرب و دار الخلافة، فقد ظهر من آيات امامنا عليه السلام و معجزاته، ما بهر حرسته من جند الظلمة و أثار اعجابهم و دهشتهم... و تبين لهم من سر أهل هذا البيت صلوات الله و سلامه عليهم، ما يدع العاقل يتفكر و يتدبر... فيا ليتهم كانوا يعلقون!.

أولاها ما قاله يحيي بن هرثمة في رواية تتناول وصف ذهابه بطلب الامام عليه السلام، و ايابه باحضاره محاطا بثلاثمئة رجل... «مسلحين» اذ قال:

«دعاني المتوكل و قال: اختر ثلاثمئة رجل ممن تريد، و اخرجوا الي الكوفة فخلفوا أثقالكم فيها، و اخرجوا علي طريق البادية الي المدينة، فأحضروا علي بن محمد عليهماالسلام الي عندي مكرما معظما مبجلا... ففعلت، و خرجنا.

و كان في أصحابي قائد من الشراة - الخوارج - و كان لي كاتب متشيع، و أنا علي مذهب الحشوية. فكان «الشاري» يناظر الكاتب، و كنت أستريح الي مناظرتهما لقطع الطريق.

فلما صرنا وسط الطريق قال «الشاري» للكاتب: أليس من قول صاحبكم علي بن أبي طالب عليه السلام: ليس من الأرض بقعة الا و هي قبر، أو ستكون قبرا؟. فانظر الي هذه البرية العظيمة أين من يموت فيها حتي يملأها الله قبورا كما تزعمون؟!.

فقلت للكاتب: أهذا من قولكم؟



[ صفحه 95]



قال: نعم.

فقلت: صدق، أين من يموت في هذه البرية العظيمة حتي تمتلي ء قبورا؟!.

و تضاحكنا ساعة اذ انخذل الكتاب في أيدينا. و سرنا حتي دخلنا المدينة. فقصدت باب أبي الحسن، فدخلت اليه، و قرأ كتاب المتوكل و قال: انزلوا، فليس من جهتي خلاف...

فلما صرت اليه من الغد - و كنا في تموز، أشد ما يكون من الحر، فاذا بين يديه خياط و هو يقطع من ثياب غلاظ خفاتين له و لغلمانه - و الخفتان ثوب شتوي - و قال للخياط: اجمع عليها جماعة من الخياطين، و اعمل علي الفراغ منها يومك هذا، و بكر بها الي في هذا الوقت. ثم نظر الي و قال: يا يحيي، اقضوا و طركم من المدينة في هذا اليوم، و اعمل علي الرحيل غدا في هذا الوقت.

فخرجت من عنده و أنا أتعجب منه و من الخفاتين و أقول في نفسي: نحن في تموز و حر الحجاز، و بيننا و بين العراق مسيرة عشرة أيام، فما يصنع بهذه الثياب؟!. و قلت في نفسي: هذا رجل لم يسافر؛ و يقدر أن كل سفر يحتاج الي هذه الثياب. و العجب من الروافض حيث يقولون بامامة هذا، مع فهمه هذا!.

فعدت اليه في الغد في ذلك الوقت، فاذا الثياب قد أحضرت، و قال لغلمانه: ادخلوا و خذوا لنا معكم لبابيد و برانس - و يلبس علي الرأس و البدن من الثياب الغليظة - ثم قال: ارحل يا يحيي.

فقلت في نفسي: و هذا أعجب من الأول!. يخاف أن يلحقنا الشتاء في الطريق حتي أخذ معه اللبابيد و البرانس!. فخرجت و أنا أستصغر فهمه...



[ صفحه 96]



فسرنا حتي اذا وصلنا الي الموضع الذي وقعت فيه المناظرة في القبور، ارتفعت سحابة. و اسودت، و أرعدت و أبرقت، حتي اذا صارت علي رؤوسنا أرسلت علينا بردا مثل الصخور، و قد شد علي نفسه عليه السلام، و علي غلمانه، الخفاتين، و لبسوا اللبابيد و البرانس، و قال لغلمانه: ادفعوا لي يحيي لبادة، و الي الكاتب برنسا... و تجمعنا و البرد يأخذنا حتي قتل من أصحابي ثمانين رجلا!.

و زالت، و عاد الحر كما كان... فقال لي: يا يحيي، أنزل من بقي من أصحابك فادفن من مات منهم، فكهذا يملأ الله هذه البرية قبورا.

قال: فرميت نفسي عن دابتي، و عدوت اليه فقبلت رجله و ركابه و قلت: أنا أشهد أن لا اله الا الله، و أن محمدا صلي الله عليه و آله و سلم عبده و رسوله، و أنكم خلفاء الله في أرضه. فقد كنت كافرا، و قد أسلمت الآن علي يديك يا مولاي... و تشيعت، و لزمت خدمته الي أن مضي» [7] .

فعن هذه الآية الالهية استنطق أولئك الأموات - الذين ملأ الله تعالي البرية بقبورهم - يجيبوك بالحق و هم رفات!. لأن موتهم كان آية بينة من آيات الله تعالي أمد بها الامام عليه السلام في ساعة الهزء من مولاه «الكاتب» الشيعي!. و ان تلك الرفات التي صرع أصحابها البرد لتنطق بما عانته من عاقبة العناد، و بما ذاقته من الموت زؤاما حين سخرت بقول أميرالمؤمنين و سيد الوصيين سلام الله عليه!.

و الثانية أنه قيل: «وجه المتوكل عتاب بن أبي عتاب الي المدينة يحمل



[ صفحه 97]



علي بن مححد عليهماالسلام الي سر من رأي، و كان الشيعة يتحدثون أنه يعلم الغيب، و كان في نفس عتاب من هذا شي ء - أي كان يستهزي ء بهذا القول. و من المؤكد أن هذا الرجل كان مع زمرة القصر التي كانت برئاسة يحيي بن هرثمة -.

فلما فصل من المدينة رآه و قد لبس لبادة و السماء صاحية!. فما كان بأسرع من أن تغيمت و أمطرت!. فقال عتاب: هذا واحد.

ثم لما وافي شط القاطول علي دجلة رآه مقلق القلب فقال - أي الامام عليه السلام - له: مالك يا أباأحمد؟.

فقال: قلبي مقلق بحوائج التمستها من أميرالمؤمنين.

فقال: ان حوائجك قد قضيت.

فما أسرع من أن جاءته البشارات بقضاء حوائجه، فقال: ان الناس يقولون انك تعلم الغيب، و قد تبينت ذلك من خلتين. [8] .

فسلام الله و تحياته و بركاته علي أعلام التقي الذين جعلهم الله سبحانه و تعالي جلاء العملي في الناس، و نبراس الهدي، و الحجة العظمي علي أهل الدنيا لمن كان له أذن واعية و عقل رشيد، فانهم جديرون بالمراتب التي رتبهم الله عز اسمه فيها، و نحن من أبخل البخلاء حين ننكر عليهم ما أنعم به عليهم غيرنا، مع أن الاعتراف بنعمة الله عليهم لا يكلفنا عبودية لهم، و لا يحملنا صرفا و لا غرما... بل يكسبنا فضلا عظيما و غنما جزيلا...

و مثل قضية عتاب كانت قضية زميله أبي العباس الذي كان في جملة



[ صفحه 98]



الثلاثمئة رجل من جند الخليفة، و حدثت معه القصة الثالثة التي رواها أبومحمد البصري عن أبي العباس، عن شبل، كاتب ابراهيم بن محمد، قائلا:

«كنا أجرينا ذكر أبي الحسن عليه السلام فقال لي: يا أبا محمد، لم أكن في شي ء من هذا الأمر - أي لم يكن اماميا معترفا بالولاية - و كنت أعيب علي أخي و علي أهل هذا القول عيبا شديدا بالذم و الشتم، الي أن كنت في الوفد الذي أوفد المتوكل الي المدينة لا حضار أبي الحسن عليه السلام، فخرجنا الي المدينة.

فلما خرج وصرنا في بعض الطريق، و طوينا المنزل، و كان منزلا صائفا شديد الحر، فسألناه أن ينزل فقال: لا.

فخرجنا و لم نطعم، و لم نشرب...

فلما اشتد الحر و الجوع و العطش، و بينما نحن كذلك في أرض ملساء لا نري شيئا و لا ظلا و لا ماء نستريح اليه. فجعلنا نشخص بأبصارنا نحوه، قال: و ما لكم؟. أحسبكم جياعا، و قد عطشتم.

فقلنا: اي و الله يا سيدنا، قد عيينا.

قال: عرسوا، و كلوا، و اشربوا.

فتعجبت من قوله و نحن في صحراء ملساء لا نري فيها شيئا لنستريح اليه، و لا نري ماء و لا ظلا!.

فقال: ما لكم؟ عرسوا.

فابتدرت الي القطار - القافلة - لأنيخ، ثم التفت و اذا أنا بشجرتين عظيمتين يستظل تحتهما عالم من الناس، و اني لا عرف موضعهما أنه أرض براح قفراء!. و اذا بعين تسيح علي وجه الأرض أعذب ماء و أبرده!. فنرلنا، و أكلنا و شربنا، و استرحنا. و ان فينا من سلك ذلك الطريق مرارا.



[ صفحه 99]



فوقع في قلبي ذلك الوقت أعاجيب، و جعلت أحد النظر اليه و أتأمله طويلا، و اذا نظرت اليه تبسم و زوي وجهه عني!.

فقلت في نفسي لأعرفن هذا، كيف هو؟!. فأتيت وراء الشجرة فدفنت سيفي و وضعت عليه حجرين، و تغوطت في ذلك الموضع و تهيأت للصلاة.

فقال أبوالحسن عليه السلام: استرحتم؟!.

قلنا له: نعم.

قال: فارتحلوا علي اسم الله. فارتحلنا.

فلما أن سرنا ساعة رجعت علي الأثر، فأتيت الموضع فوجدت الأثر و السيف كما وضعت و العلامة، و كأن الله لم يخلق ثم شجرة و لا ماء، و لا ظلا و لا بللا!. فتعجبت من ذلك و رفعت يدي الي السماء فسألت الله الثبات علي المحبة و الايمان به، و المعرفة منه... و أخذت الأثر و لحقت القوم...

فالتفت الي أبوالحسن عليه السلام و قال لي: يا أباالعباس، فعلتها؟!.

قلت: نعم يا سيدي، لقد كنت شاكا، و أصبحت أنا عند نفسي من أغني الناس في الدنيا و الآخرة.

فقال: هو كذلك. هم معدودون معلومون - أي الشيعة - لا يزيد رجل و لا ينقص [9] .

و الأسئلة التي تفرض نفسها علينا، هي: لماذا تعمد الامام عليه السلام أن يعرس هذا العدد الهائل من الجند في صحراء ملساء حرها لاهب؟!. و لم أنبت الله تعالي هاتين الشجرتين، و فجر قربهما الماء العذب البارد؟!.



[ صفحه 100]



و لماذا أجري الله تبارك و تعالي علي يدي الامام هذه المعجزة في ذلك المكان، و ذاك الزمان؟!. أليتشيع أبوالعباس، أو عتاب، أو هرثمة و رجاله؟!.

لا، طبعا... لا من أجل ذلك، و لا من أجل ما يدور في فكرك لأول و هلة... بل من أجل أن تخلد هذه الأية علي المدي البعيد فتصلني و تصلك فنؤمن بالله و بكتبه و ملائكته و رسله و أوليائه الأصفياء... ثم من أجل أن يشحن يومئذ ثلاثمئة قوة - مدمرة يلقيها من حول عرش الظلم، و من أجل أن يشاع ذلك و يذاع في جيش كان عدد أفراده تسعين ألفا يحدقون بقصر ذلك الحاكم المتحكم برقاب الناس من غير أن ينصبه عليهم رب و لا انتخاب... و لينتشر أمر الامام الحق و يشتهر... في كل مكان، و كل زمان.

و ان الانسان ليقف حائرا أمام كثير من أفعال الامام عليه السلام و أقواله التي تتناول الغيب و تأتي بالخوارق... و متفكرا في تحليلها تحليلا يتقبله ذهنه، و في فلسفتها فلسفة يتهضمها عقله... فيعجز لدي التفكير و التحليل، و لا يري الا الاذعان لأفعال الخالق الجليل عزوعلا، والايمان بانتجاب هذا الامام العظيم الذي يدل الناس علي عظمة الخالق من خلال عظمة مخلوقة، و علي قدرته سبحانه و ما اختص به أئمة أهل البيت عليهم السلام، مما لم يختص به أحدا من خلقه حتي الأنبياء السابقين و أوصياءهم، لأنهم - هم وحدهم - ورثة النبيين و الوصيين جميعا، و عندهم ما كان عندهم، مضافا اليه ما كان عند جدهم الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم.

و أرجو أن لا يكون قارئي الكريم قد نسي ذكر خان الصعاليك الذي نزل فيه الامام عليه السلام ليلة وروده سر من رأي، لئلا يفوته ذكر واحدة من آيات الامام - في ذلك الخان - تبين له كيف تكون سفارة السماء... علي الأرض!.



[ صفحه 101]



فان سفير الله تعالي في عباده، ليس هذا منزله في الدنيا يا أيها «المتوكل» لذي احتجب عنه بكبرياء «السلطان» و الطغيان... و لا يمكن أن يكون منزله كذلك و لو رأيناه في العيان!.

أجل، قال صالح بن سعيد: «دخلت علي أبي الحسن يوم وروده - الي سر من رأي - فقلت له: جعلت فداك، في كل الأمور أرادوا اطفاء نورك و التقصير بك، حتي أنزلوك في هذا الخان الأشنع، خان الصعاليك!.

فقال: ها هنا أنت يا ابن سعيد!. - أي: أنت في هذه المرتبة من معرفتنا، و تظن أن هذه الأمور تنقص من قدرنا؟ -. ثم أومأ بيده و قال: انظر...

فنظرت، فاذا أنا بروضات أنيقات، و أنهار جاريات، و أطيار و ظباء، و جنات فيها خيرات عطرات، و ولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون!. فحار بصري، و حسرت عيني، و كثر تعجبي!.

فقال لي: حيث كنا فهذا لنا عتيد يا ابن سعيد!. لسنا في خان الصعاليك [10] .

فصالح بن سعيد الغيور علي كرامة امامه، قد اقتصر نظره و علمه علي المظاهر الزائلة من مباهج الحياة، و قصر - حينها - عن ادراك اللذة الروحانية العلوية، فعظم عليه أن يري امامه في منزل معد لعامة الفقراء و المساكين، و ظن أن ذلك يحط من منزلته، فأراه الامام عليه السلام أن مثل هذه الحالة يضاعف من علو منزلته عند ربه... ثم كشف له عما هيأه سبحانه له من كريم



[ صفحه 102]



المقام و حسن المنزل أينما أقام... و أظهر له بعض آياته ليشتهر اعجازه بين الناس فتقوم الحجة علي الخصوم، و تتثبت قلوب شيعته فلا يلج اليها نفث الشيطان... و علي هذا الأساس استفتح أولي لياليه في سر من رأي بهذه الآية... ليسمع الناس و يروا... و لنسمع و نري عبر الدوران عناية الخالق بعباده المنتجبين الذي جعلهم خيرة الخلق أجمعين...

أفكان للناس عجبا أن يكون للامام مثل ذلك و أكثر أينما حل أو ارتحل؟!. لا، بل هو في كنف بارئه حجة منذ برأه، و في عين خالقه ممتاز عن الآخرين، مميز عن العالمين، منذ صوره و خلقه... قد جعل له مثل ذلك و أكثر أينما حل أو ارتحل، ولكننا لا نراه... و يراه؛ لأن حواس أولياء الله و خلفائه في أرضه تختلف قدراتها عن قدرات حواسنا بحسب ما خلقها الله تعالي عليه؛ فان النبي صلي الله عليه و آله و سلم كان يري جبرائيل الأمين عليه السلام و كثيرين من الملائكة، و يسمع كلامهم و يخاطبهم - و كذلك سائر الأنبياء - و لا يكذب بذلك الا الكافرون - في حين أن صحابة النبي لم يروا ملكا و لا سمعوا كلامه!. فأهل البيت عليهم السلام مجهزون بما أهلهم لخلافة الني و خلافة الله عز اسمه بدون أدني شك... و السفير عن العرش السماوي أولي من السفير عن أي عرش أرضي بأن تكوين لديه امكانات تفوق حد المعقول لأنه يمثل العزيز الجبار الذي (و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السموات مطويات بيمينه) [11] فلا جرم أن يسخر لسفيره المنتدب لأمره سائر مخلوقاته، ليكون جديرا بتمثيل القدرة الالهية التي تقول للشي ء: كن، فيكون... و اذا لم يكن ذلك كذلك، تبطل آيات الأنبياء و الرسل، و تذهب ثمة حجج الأوصياء و الأولياء و الأصفياء أدراج الرياح.



[ صفحه 103]



فلا غرابة في أن نري عبده الصالح - الذي حمل أمره و دعوته - يستريح في مثل تلك الجنة الوارفة الظلال بعد و عثاء السفر الذي حمله عليه عبد جائر يريد أن يبارز الله تعالي في ملكه و يحجب عن الناس حجته البالغة... حتي و لو رأيناه - ظاهرا - في خان الصعاليك الذي أزري ساعتئذ بقصر الخليفة، و أناف علي داره و مقر قراره... لأنه كان النافذة المطلة من المساء علي الأرض تنشر منها الرحمة و الخير و البركة علي قلب كل عبد منيب!.



[ صفحه 104]




پاورقي

[1] تأمر المتوكل سنة 232 بعد وفاة الواثق الذي كان ابنه صغيرا و قصيرا و لم يتلاءم قوامه معن ثوب الخلافة، فقام أحمد بن أبي دؤاد و ألبس الثوب و العمامة للمتوكل و قبل بين عينيه و قال: السلام عليك يا أميرالمؤمنين و رحمة الله و بركاته، فصار بذلك أميرللمؤمنين!!!! أنظر الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 278 و من جميل المفارقات - و صنع الله تعالي - أن المتوكل غضب علي قاضية المتزلف أحمد بن أبي دؤاد و قبض ضياعه و أملاكه، و حبس ابنه أبا الوليد و سائر أولاده، فحمل أبوالوليد مئة و عشرين ألف دينار و جواهر قيمتها عشرون ألف دينار. ثم صولح بعد ذلك علي ستة عشر ألف درهم. أنظر الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 389 و تصور هذه النوعية من قضاة المسلمين الشرفاء! و من هذه البيعة بامارة المؤمنين و أمثالها.

[2] الصواعق المحرقة: ص 207.

[3] بحارالأنوار: ج 50 ص 209 و أنظر حلية الأبرار: ج 2 ص 463.

[4] الارشاد: ص 314 - 313 و الكافي: م 1 ص 501 و الأنوار البهية: ص 259 و حلية الأبرار: ج 2 ص 463.

[5] الارشاد: ص 314 - 313 و كشف الغمة: ج 3 ص 173 - 172 و هو في اعلام الوري: ص 348 - 347 باختصار، و أنظره بتمامه في بحار الأنوار: ج 50 ص 202 - 200 و الكافي: م 1 ص 502 - 501 و تذكرة الخواص: ص 373 و حلية الأبرار: ج 2 ص 463.

[6] تذكرة الخواص: ص 374 - 373 و بحارالأنوار: ج 50 ص 201 في الهامش، و ص 207 و ص 208 و مروج الذهب: ج 4 ص 85 - 84 و الأنوار البهية: ص 260 - 259 و مدينة المعاجز: ص 553.

[7] كشفة الغمة: ج 3 ص 182 - 181 و بحار الأنوار: ج 50 ص 144 - 143 نقلا عن مختار الخرائج و الجرائح: ص 209 و هو في مدينة المعاجز: ص 548 - 547.

[8] بحارالأنوار: ج 50 ص 173 و مناقب آل أبي طالب: ج 1 ص 413 و مدينة المعاجز: ص 554.

[9] بحارالأنوار: ج 50 ص 157 - 156 عن مختار الخرائج و الجرائح: ص 212، و هو في مدينة المعاجز: ص 551 و ص 552.

[10] الكافي: م 1 ص 498 و الأنوار البهية: ص 261 و الارشاد: ص 314 و كشف الغمة: ج 3 ص 173 و اعلام الوري: ص 348 و مناقب آل أبي طالب: ج 1 ص 411 و بحارالأنوار: ج 50 ص 133 و ص 203 - 202 نقلا عن بصائر الدرجات: ص 406. و هو في مدينة المعاجز: ص 540 و حليلة الأبرار: ج 2 ص 464 - 463.

[11] الزمر: 67.