بازگشت

الجبر والتفويض


1 - ابن شعبة الحرّانيّ(رحمه الله): من عليّ بن محمّد(عليها السلام): سلام عليكم وعلي من اتّبع الهدي ورحمة الله وبركاته، فإنّه ورد عليّ كتابكم، وفهمت ماذكرتم من اختلافكم في دينكم، وخوضكم في القدر، ومقالة من يقول منكم بالجبر، ومن يقول بالتفويض، وتفرّقكم في ذلك وتقاطعكم، وما ظهر من العداوة بينكم، ثمّ سألتموني عنه وبيانه لكم وفهمت ذلك كلّه....

فإنّا نبدأ من ذلك بقول الصادق(عليه السلام): «لا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين المنزلتين، وهي صحّة الخلقة، وتخلية السرب، والمهلة في الوقت، والزاد مثل الراحلة، والسبب المهيّج للفاعل علي فعله» فهذه خمسة أشياء جمع به الصادق(عليه السلام) جوامع الفضل، فإذا نقص العبد منها خلّة، كان العمل عنه مطروحاً بحسبه، فأخبر الصادق(عليه السلام) بأصل ما يجب علي الناس من طلب معرفته، ونطق الكتاب بتصديقه، فشهد بذلك محكمات آيات رسوله، لأنّ الرسول(صلي الله عليه وآله) وآله(عليهم السلام) لا يعدون شيئاً من قوله وأقاويلهم حدود القرآن، فإذا وردت حقائق الأخبار والتمست شواهدها من التنزيل، فوجد لها موافقاً وعليها دليلاً، كان الاقتداء بها فرضاً لا يتعدّاه إلّإ؛) أهل العناد كما ذكرنا في أوّل الكتاب.



[ صفحه 28]



ولمّا التمسنا تحقيق ما قاله الصادق(عليه السلام) من المنزلة بين المنزلتين، وإنكاره الجبر والتفويض، وجدنا الكتاب قد شهد له، وصدّق مقالته في هذا، وخبر عنه أيضاً موافق لهذا: أنّ الصادق (عليه السلام) سئل هل أجبر الله العباد علي المعاصي؟

فقال الصادق(عليه السلام): هو أعدل من ذلك، فقيل له: فهل فوّض إليهم؟

فقال(عليه السلام): هو أعزّ وأقهر لهم من ذلك.

وروي عنه(عليه السلام) أنّه قال: الناس في القدر علي ثلاثة أوجه: رجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليه فقد وهّن الله في سلطانه فهو هالك.

ورجل يزعم أنّ الله جلّ وعزّ أجبر العباد علي المعاصي وكلّفهم مالايطيقون فقد ظلّم الله في حكمه فهو هالك.

ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون، ولم يكلّفهم ما لا يطيقون، فإذا أحسن حمد الله، وإذا أساء استغفر الله، فهذا مسلم بالغ.

فأخبر(عليه السلام): أنّ من تقلّد الجبر والتفويض ودان بهما فهو علي خلاف الحقّ.

فقد شرحت الجبر الذي من دان به يلزمه الخطأ، وأنّ الذي يتقلّد التفويض يلزمه الباطل، فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما.

ثمّ قال(عليه السلام): وأضرب لكلّ باب من هذه الأبواب مثلاً يقرّب المعني للطالب، ويسهّل له البحث عن شرحه، تشهد به محكمات آيات الكتاب، وتحقّق تصديقه عند ذوي الألباب، وبالله التوفيق والعصمة.

فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهو قول من زعم أنّ الله جلّ وعزّ أجبر العباد علي المعاصي وعاقبهم عليها؛ ومن قال بهذا القول فقد ظلّم الله في حكمه، وكذّبه وردّ عليه قوله: (وَلَايَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).



[ صفحه 29]



وقوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّمٍ لِّلْعَبِيدِ).

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَايَظْلِمُ النَّاسَ شَيًْا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

مع آيٍ كثيرة في ذكر هذا.

فمن زعم أنّه مجبر علي المعاصي فقد أحال بذنبه علي الله، وقد ظلّمه في عقوبته.

ومن ظلّم الله فقد كذّب كتابه. ومن كذّب كتابه فقد لزمه الكفر بإجتماع الأُمّة.

ومثل ذلك مثل رجل ملك عبداً مملوكاً لا يملك نفسه ولا يملك عرضاً من عرض الدنيا، ويعلم مولاه ذلك منه فأمره علي علم منه بالمصير إلي السوق لحاجة يأتيه بها، ولم يملّكه ثمن ما يأتيه به من حاجته، وعلم المالك أنّ علي الحاجة رقيباً لا يطمع أحد في أخذها منه إلّا بما يرضي به من الثمن، وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة، وإظهار الحكمة ونفي الجور، وأوعد عبده إن لم يأته بحاجته أن يعاقبه علي علم منه بالرقيب الذي علي حاجته أنّه سيمنعه، وعلم أنّ المملوك لا يملك ثمنها ولم يملّكه ذلك، فلمّا صار العبد إلي السوق وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولي لها وجد عليها مانعاً يمنع منها إلّا بشراء، وليس يملك العبد ثمنها، فانصرف إلي مولاه خائباً بغير قضاء حاجته، فاغتاظ مولاه من ذلك وعاقبه عليه، أليس يجب في عدله و حكمه أن لا يعاقبه وهو يعلم أنّ عبده لا يملك عرضاً من عروض الدنيا ولم يملّكه ثمن حاجته؟ فإن عاقبه عاقبه ظالماً متعدّياً عليه، مبطلاً لما وصف من عدله وحكمته ونصفته، وإن لم يعاقبه كذّب نفسه في وعيده إيّاه حين أوعده بالكذب والظلم اللذين ينفيان العدل والحكمة؛ تعالي عمّا يقولون علوّاً كبيراً.



[ صفحه 30]



فمَن دان بالجبر أو بما يدعو إلي الجبر فقد ظلّم الله ونسبه إلي الجور والعدوان، إذ أوجب علي من أجبر[ه] العقوبة.

ومن زعم أنّ الله أجبر العباد فقد أوجب علي قياس قوله إنّ الله يدفع عنهم العقوبة.

ومن زعم أنّ الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب فقد كذّب الله في وعيده حيث يقول: (بَلَي مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَطَتْ بِهِ ي خَطِيَتُهُ و فَأُوْلَل-ِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ).

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَمَي ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا).

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَِايَتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) مع آي كثيرة في هذا الفن غّ ممّن كذّب وعيد الله، ويلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر.

وهو ممّن قال الله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يُرَدُّونَ إِلَي أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، بل نقول: إنّ الله عزّ وجلّ جازي العباد علي أعمالهم، ويعاقبهم علي أفعالهم بالإستطاعة التي ملّكهم إيّاها، فأمرهم ونهاهم بذلك ونطق كتابه: (مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ و عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَايُجْزَي إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ).

وقال جلّ ذكره: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ و أَمَدَم ا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ و).

وقال: (الْيَوْمَ تُجْزَي كُلُّ نَفْسِ م بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ).

فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومن دان به، ومثلها في القرآن كثير،



[ صفحه 31]



اختصرنا ذلك لئلّا يطول الكتاب وبالله التوفيق.

وأمّا التفويض الذي أبطله الصادق(عليه السلام)، وأخطأ من دان به وتقلّده، فهو قول القائل: إنّ الله جلّ ذكره فوّض إلي العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم.

وفي هذا كلام دقيق لمن يذهب إلي تحريره ودقّته، وإلي هذا ذهبت الأئمّة المهتدية من عترة الرسول(صلي الله عليه وآله)، فإنّهم قالوا: لو فوّض إليهم علي جهة الإهمال لكان لازماً له رضا ما اختاروه واستوجبوا منه الثواب، ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب إذا كان الإهمال واقعاً، وتنصرف هذه المقالة علي معنيين:

إمّا أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول إختيارهم بآرائهم ضرورة، كره ذلك أم أحبّ، فقد لزمه الوهن، أو يكون جلّ وعزّ عجز عن تعبّدهم بالأمر والنهي علي إرادته، كرهوا أو أحبّوا، ففوّض أمره ونهيه إليهم وأجراهما علي محبّتهم، إذ عجز عن تعبّدهم بإرادته، فجعل الإختيار إليهم في الكفر والإيمان.

ومثل ذلك مثل رجل ملك عبداً ابتاعه ليخدمه، ويعرف له فضل ولايته، ويقف عند أمره ونهيه، وادّعي مالك العبد أنّه قاهر عزيز حكيم، فأمر عبده ونهاه، ووعده علي اتّباع أمره عظيم الثواب، وأوعده علي معصيته أليم العقاب، فخالف العبد إرادة مالكه ولم يقف عند أمره ونهيه، فأيّ أمر أمره، أو أيّ نهي نهاه عنه لم يأته علي إرادة المولي؛ بل كان العبد يتّبع إرادة نفسه، واتّباع هواه، ولا يطيق المولي أن يردّه إلي اتّباع أمره ونهيه والوقوف علي إرادته، ففوّض إختيار أمره ونهيه إليه، ورضي منه بكلّ ما فعله علي إرادة العبد لا علي إرادة المالك، وبعثه في بعض حوائجه وسمّي له الحاجة فخالف علي مولاه وقصد لإرادة نفسه واتّبع هواه، فلمّا رجع إلي مولاه نظر إلي



[ صفحه 32]



ماأتاه به، فإذا هو خلاف ما أمره به، فقال له: لِمَ أتيتني بخلاف ما أمرتك؟

فقال العبد: اتّكلت علي تفويضك الأمر إليّ فاتّبعت هواي وإرادتي، لأنّ المفوّض إليه غير محظور عليه فاستحال التفويض.

أو ليس يجب علي هذا السبب إمّا أن يكون المالك للعبد قادراً يأمر عبده باتّباع أمره ونهيه علي إرادته، لا علي إرادة العبد، ويملّكه من الطاقة بقدر مايأمره به وينهاه عنه، فإذا أمره بأمر ونهاه عن نهي، عرّفه الثواب والعقاب عليهما؛ وحذّره ورغّبه بصفة ثوابه وعقابه، ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملّكه من الطاقة لأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه، فيكون عدله وإنصافه شاملاً له، وحجّته واضحة عليه للإعذار والإنذار. فإذا اتّبع العبد أمر مولاه جازاه، وإذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه، أو يكون عاجزاً غير قادر، ففوّض أمره إليه، أحسن أم أساء، أطاع أم عصي، عاجز عن عقوبته، وردّه إلي اتّباع أمره.

وفي إثبات العجز نفي القدرة والتألّه، وإبطال الأمر والنهي، والثواب والعقاب، ومخالفة الكتاب، إذ يقول: (وَلَايَرْضَي لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ).

وقوله عزّ وجلّ: (اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ي وَلَاتَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

وقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ).

وقوله: (اعْبُدُواْ اللَّهَ وَلَاتُشْرِكُواْ بِهِ ي شَيًْا).

وقوله: (أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ و [1] وَلَاتَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ).



[ صفحه 33]



فمن زعم أنّ الله تعالي فوّض أمره ونهيه إلي عباده فقد أثبت عليه العجز، وأوجب عليه قبول كلّ ما عملوا من خير وشرّ، وأبطل أمر الله ونهيه ووعده ووعيده، لعلّة ما زعم أنّ الله فوّضها إليه، لأنّ المفوّض إليه يعمل بمشيئته، فإن شاء الكفر أو الإيمان، كان غير مردود عليه ولا محظور، فمن دان بالتفويض علي هذا المعني فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه، وهو من أهل هذه الآية: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يُرَدُّونَ إِلَي أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). تعالي عمّا يدين به أهل التفويض علوّاً كبيراً.

لكن نقول: إنّ الله عزّ وجلّ خلق الخلق بقدرته، وملّكهم استطاعة تعبّدهم بها، فأمرهم ونهاهم بما أراد، فقبل منهم اتّباع أمره ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته، وذمّ من عصاه وعاقبه عليها، ولله الخيرة في الأمر والنهي، يختار ما يريد ويأمر به، وينهي عمّا يكره ويعاقب عليه بالإستطاعة التي ملّكها عباده لإتّباع أمره واجتناب معاصيه، لأنّه ظاهر العدل والنصفة والحكمة البالغة، بالغ الحجّة بالإعذار والإنذار، وإليه الصفوة يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته، واحتجاجه علي عباده؛ اصطفي محمّداً(صلي الله عليه وآله) وبعثه برسالاته إلي خلقه، فقال من قال من كفّار قومه حسداً واستكباراً: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَي رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) يعني بذلك أُميّة بن أبي الصلت وأبا مسعود الثقفي، فأبطل الله اختيارهم ولم يجز لهم آراءهم حيث يقول: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ). ولذلك اختار من الأُمور



[ صفحه 34]



ما أحبّ ونهي عمّا كره، فمن أطاعه أثابه. ومن عصاه عاقبه، ولو فوّض اختيار أمره إلي عباده لأجاز لقريش اختيار أُميّة ابن أبي الصلت، وأبي مسعود الثقفي، إذ كانا عندهم أفضل من محمّد(صلي الله عليه وآله).

فلمّا أدّب الله المؤمنين بقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَي اللَّهُ وَرَسُولُهُ و أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) فلم يجز لهم الاختيار بأهوائهم، ولم يقبل منهم إلّا اتّباع أمره، واجتناب نهيه علي يدي من اصطفاه، فمن أطاعه رشد، ومن عصاه ضلّ وغوي، ولزمته الحجّة بما ملّكه من الاستطاعة لاتّباع أمره واجتناب نهيه، فمن أجل ذلك حرّمه ثوابه وأنزل به عقابه.

وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض، وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الإستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل.

فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): سألت عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية.

فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): قل يا عباية!

قال: وما أقول؟

قال(عليه السلام): إن قلت: إنّك تملّكها مع الله قتلتك، وإن قلت: تملّكها دون الله قتلتك.

قال عباية: فما أقول يا أمير المؤمنين؟

قال(عليه السلام): تقول إنّك تملّكها بالله الذي يملّكها من دونك، فإن يملّكها إيّاك كان ذلك من عطائه، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه، هو المالك لما ملّكك، والقادر علي ما عليه أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوّة حين



[ صفحه 35]



يقولون: لاحول ولا قوّة إلّا بالله.

قال عباية: وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟

قال(عليه السلام): لا حول عن معاصي الله إلّا بعصمة الله، ولا قوّة لنا علي طاعة الله إلّا بعون الله.

قال: فوثب عباية فقبّل يديه ورجليه.

وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة الله قال: ياأمير المؤمنين بماذا عرفت ربّك؟

قال(عليه السلام): بالتمييز الذي خوّلني والعقل الذي دلّني.

قال: أفمجبول أنت عليه؟

قال: لو كنت مجبولاً ما كنت محموداً علي إحسان، ولا مذموماً علي إساءة، وكان المحسن أولي باللائمة من المسيي ء، فعلمت أنّ الله قائم باق، وما دونه حدث حائل زائل، وليس القديم الباقي كالحدث الزائل.

قال نجدة: أجدك أصبحت حكيماً يا أمير المؤمنين!

قال: أصبحت مخيّراً. فإن أتيت السيّئة [ب]مكان الحسنة فأنا المعاقب عليها.

وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن خروجنا إلي الشام بقضاء وقدر؟

قال(عليه السلام): نعم، يا شيخ! ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادياً إلّا بقضاء وقدرمن الله.

فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين!

فقال(عليه السلام): مه يا شيخ! فإنّ الله قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون،



[ صفحه 36]



ولم تكونوا في شي ء من أُموركم مكرهين، ولا إليه مضطرّين، لعلّك ظننت أنّه قضاء حتم، وقدر لازم،لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، ولسقط الوعد والوعيد، ولما أُلزمت الأشياء أهلها علي الحقائق؛ ذلك مقالة عبدة الأوثان، وأولياء الشيطان، إنّ الله جلّ وعزّ أمر تخييراً ونهي تحذيراً، ولم يطع مكرهاً ولم يعص مغلوباً، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.

فقام الشيخ فقبّل رأس أمير المؤمنين(عليه السلام) وأنشأ يقول:



أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النجاة من الرحمن غفراناً



أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً

جزاك ربّك عنّا فيه رضواناً



فليس معذرة في فعل فاحشة

قد كنت راكبها ظلماً وعصياناً



فقد دلّ أمير المؤمنين(عليه السلام) علي موافقة الكتاب ونفي الجبر والتفويض اللذين يلزمان من دان بهما وتقلّدهما الباطل والكفر، وتكذيب الكتاب، ونعوذ بالله من الضلالة والكفر، ولسنا ندين بجبر ولا تفويض، لكنّا نقول بمنزلة بين المنزلتين وهو الامتحان والاختبار بالاستطاعة التي ملّكنا الله، وتعبّدنا بها علي ما شهد به الكتاب، ودان به الأئمّة الأبرار من آل الرسول صلوات الله عليهم.

ومثل الاختبار بالإستطاعة مثل رجل ملك عبداً وملك مالاً كثيراً أحبّ أن يختبر عبده علي علم منه بما يؤول إليه، فملّكه من ماله بعض ما أحبّ ووقفه علي أُمور عرّفها العبد، فأمره أن يصرف ذلك المال فيها، ونهاه



[ صفحه 37]



عن أسباب لم يحبّها، وتقدّم إليه أن يجتنبها ولا ينفق من ماله فيها، والمال يتصرّف في أيّ الوجهين، فصرف المال أحدهما في اتّباع أمر المولي ورضاه، والآخر صرفه في اتّباع نهيه وسخطه؛ وأسكنه دار اختبار أعلمه أنّه غير دائم له السكني في الدار، وأنّ له داراً غيرها وهو مخرجه إليها، فيها ثواب وعقاب دائمان، فإن أنفذ العبد المال الذي ملّكه مولاه في الوجه الذي أمره به جعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمه أنّه مخرجه إليها، وإن أنفق المال في الوجه الذي نهاه عن إنفاقه فيه جعل له ذلك العقاب الدائم في دار الخلود.

وقد حدّ المولي في ذلك حدّاً معروفاً وهو المسكن الذي أسكنه في الدار الأولي، فإذا بلغ الحدّ استبدل المولي بالمال وبالعبد علي أنّه لم يزل مالكاً للمال والعبد في الأوقات كلّها، إلّا أنّه وعد أن لا يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار الأولي إلي أن يستتمّ سكناه فيها فوفي له، لأنّ من صفات المولي، العدل والوفاء، والنصفة والحكمة.

أو ليس يجب إن كان ذلك العبد صرف ذلك المال في الوجه المأمور به أن يفي له بما وعده من الثواب، وتفضّل عليه بأن استعمله في دار فانية وأثابه علي طاعته فيها نعيماً دائماً في دار باقية دائمة؟

وإن صرف العبد المال الذي ملّكه مولاه أيّام سكناه تلك الدار الأولي في الوجه المنهيّ عنه، وخالف أمر مولاه، كذلك تجب عليه العقوبة الدائمة التي حذّره إيّاها، غير ظالم له لما تقدّم إليه وأعلمه وعرّفه وأوجب له الوفاء بوعده ووعيده، بذلك يوصف القادر القاهر.

وأمّا المولي فهو الله جلّ وعزّ، وأمّا العبد فهو ابن آدم المخلوق، والمال قدرة الله الواسعة، ومحنته إظهار[ه] الحكمة والقدرة، والدار الفانية هي



[ صفحه 38]



الدنيا، وبعض المال الذي ملّكه مولاه هو الإستطاعة التي ملّك ابن آدم، والأُمور التي أمر الله بصرف المال إليها هو الإستطاعة لاتّباع الأنبياء، والإقرار بما أوردوه عن الله عزّ وجلّ، واجتناب الأسباب التي نهي عنها هي طرق إبليس.

وأمّا وعده فالنعيم الدائم وهي الجنّة، وأمّا الدار الفانية فهي الدنيا، وأمّا الدار الأُخري فهي الدار الباقية، وهي الآخرة.

والقول بين الجبر والتفويض هو الإختبار والإمتحان، والبلوي بالاستطاعة التي ملّك العبد.

وشرحها في الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق(عليه السلام) أنّها جمعت جوامع الفضل وأنا مفسّرها بشواهد من القرآن والبيان إن شاءالله. «تفسير صحّة الخلقة»

أمّا قول الصادق(عليه السلام) فإنّ معناه كمال الخلق للإنسان وكمال الحواسّ وثبات العقل والتمييز وإطلاق اللسان بالنطق؛ وذلك قول الله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَهُم مِّنَ الطَّيِّبَتِ وَفَضَّلْنَهُمْ عَلَي كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً).

فقد أخبر عزّ وجلّ عن تفضيله بني آدم علي سائر خلقه من البهائم والسباع، ودوابّ البحر والطير، وكلّ ذي حركة تدركه حواسّ بني آدم بتمييز العقل والنطق، وذلك قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

وقوله: (يَأَيُّهَا الْإِنسَنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ - الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّلكَ فَعَدَلَكَ - فِي أَيِ ّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ)، وفي آيات كثيرة.

فأوّل نعمة الله علي الإنسان صحّة عقله، وتفضيله علي كثير من خلقه بكمال العقل وتمييز البيان، وذلك أنّ كلّ ذي حركة علي بسيط الأرض هو



[ صفحه 39]



قائم بنفسه بحواسّه، مستكمل في ذاته، ففضل بني آدم بالنطق الذي ليس في غيره من الخلق المدرك بالحواسّ، فمن أجل النطق ملّك الله ابن آدم غيره من الخلق حتّي صار آمراً ناهياً، وغيره مسخّر له كما قال الله: (كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَي مَا هَدَلكُمْ).

وقال: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا).

وقال: (وَالْأَنْعَمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْ ءٌ وَمَنَفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ - وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ - وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَي بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَلِغِيهِ إِلَّا بِشِقِ ّ الْأَنفُسِ).

فمن أجل ذلك دعا الله الإنسان إلي اتّباع أمره وإلي طاعته بتفضيله إيّاه باستواء الخلق، وكمال النطق والمعرفة، بعد أن ملّكهم استطاعة ما كان تعبّدهم به بقوله: (فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُوا).

وقوله: (لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).

وقوله: (لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَآ ءَاتَل-هَا) وفي آيات كثيرة.

فإذا سلب من العبد حاسّة من حواسّه رفع العمل عنه بحاسّته كقوله: (لَّيْسَ عَلَي الْأَعْمَي حَرَجٌ وَلَا عَلَي الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) الآية.

فقد رفع عن كلّ من كان بهذه الصفة الجهاد، وجميع الأعمال التي لا يقوم بها، وكذلك أوجب علي ذي اليسار الحجّ، والزكاة لما ملّكه من استطاعة ذلك، ولم يوجب علي الفقير الزكاة والحجّ.

قوله: (وَلِلَّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).

وقوله في الظهار: (وَالَّذِينَ يُظَهِرُونَ مِن نِّسَآلِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ - إلي قوله -: فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا).



[ صفحه 40]



كلّ ذلك دليل علي أنّ الله تبارك وتعالي لم يكلّف عباده إلّا ما ملّكهم استطاعته بقوّة العمل به ونهاهم عن مثل ذلك. فهذه صحّة الخلقة.

وأمّا قوله: «تخلية السرب»، فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمره الله به، وذلك قوله فيمن استضعف وحظر عليه العمل فلم يجد حيلة ولا يهتدي سبيلاً، كما قال الله تعالي: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَنِ لَايَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَايَهْتَدُونَ سَبِيلاً).

فأخبر أنّ المستضعف لم يخلّ سربه وليس عليه من القول شي ء إذا كان مطمئنّ القلب بالإيمان.

وأمّا المهلة في الوقت فهو العمر الذي يمتّع الإنسان من حدّ ما تجب عليه المعرفة إلي أجل الوقت، وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم إلي أن يأتيه أجله. فمن مات علي طلب الحقّ ولم يدرك كماله فهو علي خير؛ وذلك قوله: (وَمَن يَخْرُجْ مِن م بَيْتِهِ ي مُهَاجِرًا إِلَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ ي) الآية.

وإن كان لم يعمل بكمال شرايعه لعلّة ما لم يمهله في الوقت إلي استتمام أمره.

وقد حظر علي البالغ ما لم يحظر علي الطفل إذا لم يبلغ الحلم في قوله: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَرِهِنَّ) الآية، فلم يجعل عليهنّ حرجاً في إبداء الزينة للطفل، وكذلك لا تجري عليه الأحكام.

وأمّا قوله: (الزاد) فمعناه الجدة والبلغة التي يستعين بها العبد علي ما أمره الله به، وذلك قوله: (مَا عَلَي الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ) الآية.

ألا تري أنّه قبل عذر من لم يجد ما ينفق، وألزم الحجّة كلّ من أمكنته البلغة، والراحلة للحجّ والجهاد وأشباه ذلك، وكذلك قبل عذر الفقراء وأوجب لهم حقّاً في مال الأغنياء بقوله: (لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الآية.



[ صفحه 41]



فأمر بإعفائهم ولم يكلّفهم الإعداد لما لا يستطيعون ولا يملكون.

وأمّا قوله في السبب المهيّج؛ فهو النيّة التي هي داعية الإنسان إلي جميع الأفعال وحاسّتها القلب، فمن فعل فعلاً وكان بدين لم يعقد قلبه علي ذلك لم يقبل الله منه عملاً إلّا بصدق النيّة، ولذلك أخبر عن المنافقين بقوله: (يَقُولُونَ بِأَفْوَهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ).

ثمّ أنزل علي نبيّه(صلي الله عليه وآله) توبيخاً للمؤمنين (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَاتَفْعَلُونَ) الآية.

فإذا قال الرجل قولاً واعتقد في قوله، دعته النيّة إلي تصديق القول بإظهار الفعل، وإذا لم يعتقد القول لم تتبيّن حقيقته، وقد أجاز الله صدق النيّة وإن كان الفعل غير موافق لها، لعلّة مانع يمنع إظهار الفعل في قوله: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ و مُطْمَل-ِنُ م بِالْإِيمَنِ).

وقوله: (لَّايُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَنِكُمْ).

فدلّ القرآن وأخبار الرسول(صلي الله عليه وآله) أنّ القلب مالك لجميع الحواسّ يصحّح أفعالها، ولا يبطل ما يصحّح القلب شي ء.

فهذا شرح جميع الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق(عليه السلام) أنّها تجمع المنزلة بين المنزلتين، وهما الجبر والتفويض.

فإذا اجتمع في الإنسان كمال هذه الخمسة الأمثال وجب عليه العمل كمّلاً، لما أمر الله عزّ وجلّ به ورسوله، وإذا نقص العبد منها خلّة، كان العمل عنها مطروحاً بحسب ذلك.

فأمّا شواهد القرآن علي الاختبار والبلوي بالاستطاعة التي تجمع القول بين القولين فكثيرة.

ومن ذلك قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّي نَعْلَمَ الْمُجَهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّبِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ).



[ صفحه 42]



وقال: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَايَعْلَمُونَ).

وقال: (الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَايُفْتَنُونَ).

وقال في الفتن التي معناها الاختبار: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَنَ) الآية.

وقال في قصّة موسي(عليه السلام): (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن م بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ).

وقول موسي: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي اختبارك.

فهذه الآيات يقاس بعضها ببعض ويشهد بعضها لبعض.

وأمّا آيات البلوي بمعني الاختبار قوله: (لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ ءَاتَل-كُمْ).

وقوله: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ).

وقوله: (وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ).

وقوله: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

وقوله: (وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَهِيمَ رَبُّهُ و بِكَلِمَتٍ).

وقوله: (وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ).

وكلّ ما في القرآن من بلوي هذه الآيات التي شرح أوّلها فهي إختبار، وأمثالها في القرآن كثيرة، فهي إثبات الاختبار والبلوي، إنّ الله عزّ وجلّ لم يخلق الخلق عبثاً، ولا أهملهم سدي، ولا أظهر حكمته لعباً وبذلك أخبر في قوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَكُمْ عَبَثًا).

فإن قال قائل: فلم يعلم الله ما يكون من العباد حتّي اختبرهم؟

قلنا: بلي! قد علم ما يكون منهم قبل كونه وذلك قوله: (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ) وإنّما اختبرهم ليعلمهم عدله، ولا يعذّبهم إلّا بحجّة بعد الفعل، وقد أخبر بقوله: (وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ ي لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا).



[ صفحه 43]



وقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّي نَبْعَثَ رَسُولًا).

وقوله: (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ).

فالاختبار من الله بالإستطاعة التي ملّكها عبده، وهو القول بين الجبر والتفويض؛ وبهذا نطق القرآن وجرت الأخبار عن الأئمّة من آل الرسول(صلي الله عليه وآله).

فإن قالوا: ما الحجّة في قول الله: (يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ) وماأشبهها؟

قيل: مجاز هذه الآيات كلّها علي معنيين:

أمّا أحدهما فإخبار عن قدرته أي إنّه قادر علي هداية من يشاء وضلال من يشاء، وإذا أجبرهم بقدرته علي أحدهما لم يجب لهم ثواب، ولا عليهم عقاب علي نحو ما شرحنا في الكتاب.

والمعني الآخر أنّ الهداية منه تعريفه كقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَهُمْ) أي عرّفناهم (فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَي عَلَي الْهُدَي) فلو أجبرهم علي الهدي لم يقدروا أن يضلّوا، وليس كلّما وردت آية مشتبهة، كانت الآية حجّة علي محكم الآيات اللواتي أمرنا بالأخذ بها.

من ذلك قوله: (مِنْهُ ءَايَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ ي وَمَا يَعْلَمُ) الآية.

وقال: (فَبَشِّرْ عِبَادِ - الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ و) أي أحكمه وأشرحه (أُوْلَل-ِكَ الَّذِينَ هَدَلهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَل-ِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَبِ).... [2] .



[ صفحه 44]




پاورقي

[1] في المصدر: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول...، ولكن صحّحناها بما في المصحف الشريف.

[2] تحف العقول: 458، س 5. يأتي الحديث بتمامه في ج 3، رقم 1019.